على ضوء الأزمة الجديدة في العلاقات الفرنسية-الجزائرية، إضافةً إلى الوضع في مالي على الحدود الجزائرية، سنحت لنا الفرصة للحديث مع أكرم خريف، الصحفي والباحث الجزائري في مجال الأمن والدفاع، الذي قدّم لنا وجهة النظر الجزائرية. أجرى الحوار دينيس كوليسنيك، المستشار والمحلل الفرنسي ورئيس مركز أبحاث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في 20 أبريل، أعلنت الرئاسة الجزائرية عن انعقاد اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الرئيس تبون، تم خلاله اعتماد مشروع قانون بشأن التعبئة العامة. يهدف هذا المشروع إلى تعزيز ترتيبات الجزائر الخاصة بالتعبئة والطوارئ وربما الحرب. هل يمكن أن تشرح لنا أسباب تبنِّي هذا المشروع وتوقيته؟
بدقّة، ليس هذا قانونًا جديدًا، بل تعديلًا للمادة 99 من الدستور، التي تتعلق بالتعبئة العامة. حتى الآن، كانت هذه المادة تُعتبر غامضة في صياغتها وصعبة التطبيق، خصوصًا لأنها كانت تتطلب تعبئة واسعة للفاعلين المؤسساتيين لاتخاذ مثل هذا القرار.
في نسختها الأصلية، نصّت المادة 99 على أن قرار التعبئة العامة يجب أن يُتخذ بقرار مشترك بين مجلس الحكومة ومجلس الأمن، مع رأي رئيس مجلس الأمة ورئيس المجلس الشعبي الوطني. لذا كان الإجراء يقوم على توافق سياسي واسع.
لا نعرف بعد أي مشروع قانون تم اعتماده تحديدًا، لكن يبدو أن هناك خيارين ممكنين: الأول يتمثل في تبسيط الإجراء عبر تقليل عدد الأطراف المعنية، ربما بحصر القرار في مجلس الأمن فقط، أو رئيس الحكومة بمشورة رئيسي المجلسين. أما الثاني، فهو اتجاه نحو تعزيز الطابع الديمقراطي، على غرار الإجراء المعتمد لإرسال القوات الجزائرية إلى الخارج، وفقًا لدستور 2022، مما يقتضي المرور الإلزامي عبر غرفتي البرلمان لأي قرار بالتعبئة العامة. لكن حتى الآن، الأمر غير واضح.
يُعد توقيت هذا القرار بالغ الأهمية. فقد أسهم في تشكيل الرأي العام، بل وحتى التأثير عليه، وأثار النقاش السياسي في الجزائر. صحيح أن البلاد تواجه توترًا متزايدًا في جوارها المباشر، وقد أثار توقيت هذه المبادرة تساؤلات، مما قد يوحي بتصعيد أو توتر في المنطقة، رغم أن ذلك لم يُؤكد بعد.
تواجه الجزائر حاليًا عددًا من القضايا الحساسة، من بينها الخلافات المستمرة مع مالي، والقلق من وجود مجموعة فاغنر، والعلاقات المتوترة مع المغرب، والاحتكاكات مع بعض الفصائل الليبية. في هذا السياق، يمكن تفسير هذا القرار كمحاولة من النظام لغلق الصفوف داخليًا، وتوحيد الرأي العام الوطني حول موقف من الحزم أو اليقظة في مواجهة بيئة إقليمية يُنظر إليها على أنها غير مستقرة.
علاوة على ذلك، لا يجب أن ننسى أن الحكومة الجزائرية تميل إلى استخدام التهويل لضمان تماسك الجبهة الداخلية وإسكات النقاشات والتناقضات.
دعنا نتحدث عن الأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر، التي عادت بعد أسبوعين فقط من آمال التقارب. فقد أمر إيمانويل ماكرون بطرد اثني عشر موظفًا قنصليًا جزائريًا واستدعى السفير الفرنسي ردًّا على إجراء مماثل من الجزائر. في رأيك، ما هو السبب الحقيقي وراء الركود الطويل في العلاقات الفرنسية-الجزائرية؟
ترجع الأزمة الحالية بين فرنسا والجزائر إلى قرار فرنسا بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وقد اعتُبر هذا القرار في الجزائر نقطة قطيعة، مما أدى إلى تبادل توترات حادة بين الجزائر وباريس. لاحقًا، تصاعد التوتر من الجانب الفرنسي، خاصةً من خلال مواقف وزير الداخلية برونو ريتايو بشأن “واجب مغادرة الأراضي الفرنسية” (OQTF) ونزاعات ثنائية أخرى.
كان من أبرز الحوادث طرد شخصية جزائرية مؤثرة كانت تقيم في فرنسا، وقد تم إلغاء قرار طردها من قبل القضاء الفرنسي لأسباب إجرائية. عزز هذا الحادث الفكرة لدى الجزائريين بأن الأزمة ليست بين الدولتين، بل بين الجزائر وبعض الأوساط السياسية الفرنسية، خصوصًا اليمين المتطرف. رغم أن وزير الداخلية يصنَّف يمينيًا، فقد اعتُبر في الجزائر تجسيدًا لهذا العداء، مما زاد من حدة التوترات.
ومع ذلك، جرت محاولة للتهدئة؛ ففي 1 أبريل، نشر رئيسا الدولتين بيانًا مشتركًا يشير إلى العودة إلى الوضع الطبيعي مع الإعلان عن التزامات ملموسة، كتشجيع الاستثمارات الفرنسية واستئناف التعاون الأمني والقضائي. وكان يُنتظر إحراز تقدم في القضايا القنصلية، خاصةً في مسألة إصدار وثائق المرور الخاصة بعمليات الطرد.
غير أن هذا الزخم الإيجابي توقف بعد أيام قليلة إثر قضية معارض جزائري لجأ إلى فرنسا وكان ملاحقًا في كلا البلدين بتهم خطيرة. وُجهت له تهمة محاولة اختطاف على الأراضي الفرنسية، وأظهرت التحقيقات تورط موظف قنصلي جزائري. أدى ذلك إلى اعتقاله، مما أثار غضب الجزائر التي نددت بانتهاك القانون الدبلوماسي.
ردت الجزائر بطرد عدة عملاء فرنسيين، يُعتقد أنهم مرتبطون بوزارة الداخلية، وردّت فرنسا بطرد 12 موظفًا جزائريًا. هذا التصعيد أحيا الحجة الجزائرية بأن بعض الجهات الفرنسية — لا سيما في وزارة الداخلية — تسعى إلى إفشال جهود المصالحة بين الرئيسين.
تاريخيًا، هذا النمط ليس جديدًا. ففي عهد جاك شيراك، كان يجري التفاوض على معاهدة صداقة فرنسية-جزائرية لتعزيز الروابط الاقتصادية والإنسانية، إلا أن المشروع أُفشل بعد تبني فرنسا قانونًا يُبرز “مزايا الاستعمار”، مما أدى إلى قطيعة واضحة.
لذا نلاحظ أن الإرادة السياسية للتقارب كثيرًا ما تتناوب مع الأعمال العدائية لبعض أجهزة الدولة، مما يعيق تحقيق تطبيع دائم للعلاقات.
لكن ما هي الخطوات الملموسة التي يمكن للبلدين اتخاذها لإعادة بناء الثقة، خاصةً في مجال التعاون الاقتصادي والأمني؟ وكيف يمكن أن تؤثر الديناميكيات الداخلية في فرنسا والجزائر على هذه الجهود؟
لا يمكن فهم العلاقة بين فرنسا والجزائر عبر منظور المساعدات التنموية أو الدعم الاقتصادي التقليدي. فالجزائر ليست دولة فقيرة، وليست بحاجة إلى معونة مالية لضمان استقرارها. وهذه الحقيقة، التي تُغفل كثيرًا في النقاشات العامة الفرنسية، تحمل بُعدين: الأول، أن دافع الضرائب الفرنسي ليس مطالبًا “بدفع” ثمن علاقات ثنائية جيدة؛ والثاني، أن التوترات الحالية تعود لأسباب سياسية وذاكرية ورمزية عميقة.
تبقى الخلافات بين البلدين مرتبطة بالتاريخ الطويل للاستعمار. من وجهة النظر الجزائرية، لم تعترف فرنسا بعد كامل الاعتراف بجرائم الحقبة الاستعمارية، بخلاف اعترافها بأحداث مظلمة أخرى مثل التعاون مع النازية واضطهاد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. لا تزال الجزائر تحمل جراح 132 عامًا من الهيمنة الاستعمارية، والاستنزاف الاقتصادي، والعنف الجماعي، فضلًا عن آثار التجارب النووية التي أجريت على أراضيها قبل وبعد الاستقلال.
في هذا السياق، يمكن أن يشكّل إقدام فرنسا على خطوة رمزية قوية، مثل الاعتراف الصريح بجرائم الاستعمار، تقدمًا كبيرًا. وليس المقصود تحميل فرنسا الحالية المسؤولية، بل تصفية الدَّين التاريخي، كما تم مع قضايا أخرى.
بمجرد ترسيخ هذه الأرضية الرمزية، يمكن التفكير في شراكة جديدة عبر معاهدة صداقة تُؤسس لتعاون طويل الأمد من خلال مشاريع استراتيجية مشتركة مثل خطوط أنابيب الغاز أو التعاون في الطاقة النووية المدنية وفق نماذج “الإيجار الأرضي” الاقتصادية. المفتاح هو بناء نوع من الاعتماد الإيجابي المتبادل الذي يربط البلدين لعقود مقبلة.
وفيما يتعلق بالهجرة، فإن النقاش في فرنسا يغلب عليه انتقاد الهجرة غير الشرعية، متجاهلًا أن فرنسا تستفيد استفادة كبرى من النخبة الجزائرية. فآلاف الأطباء والمهندسين وغيرهم من الكفاءات المدربة في الجزائر هم الآن دعامة للنظام الصحي الفرنسي. هذا “نزيف العقول”، رغم كونه فرصة للأفراد، يمثل خسارة فادحة للبلد الأصلي.
لذا، إذا كانت فرنسا تريد حوارًا صادقًا حول قضايا الهجرة، فعليها أن تعترف بهذه الفجوة، وربما تدعم التدريب الطبي في الجزائر أو تستثمر في التخصصات المحلية لخلق بدائل للهجرة القسرية.
ولكن مسألة الهجرة هي خيار فردي، أليس كذلك؟ فرنسا لا تُجبر الجزائريين على الهجرة إليها؟
أتفق معك تمامًا. علاوة على ذلك، يجب التذكير بأن السلطات الجزائرية، مثل المغربية والتونسية، لا تعارض هجرة المجرمين أكثر مما تعارض هجرة الأطباء. ومع ذلك، تظل مشكلة السياسات الفرنسية التي تدين جانبًا وتستفيد من جانب آخر. يمكن تحقيق مقاربة متوازنة ومشتركة تتطلب رؤية متبادلة للمسؤوليات ومشروعًا مشتركًا صادقًا على ضفتي المتوسط.
إذًا، لتلخيص رأيك: لإعادة إطلاق العلاقات الفرنسية-الجزائرية يجب التركيز على الرمزية وليس المال؟
نعم، بالتأكيد.
أود أن أعود إلى مسألة اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في أكتوبر 2024. كيف أثّر هذا القرار على نفوذ الجزائر الإقليمي وعلاقاتها مع تونس وموريتانيا؟
بدايةً، خطة الحكم الذاتي للصحراء التي يروج لها المغرب وُلدت أصلًا في فرنسا في أواخر العشرينات، من رغبة فرنسية لحل النزاع. لذا كانت الجزائر مغيبة منذ البداية. فرنسا كانت منحازة، رغم تظاهرها بالحياد.
الإعلان الأخير لم يُغير الكثير، إذ لا تزال موريتانيا تعترف بالجمهورية الصحراوية، وتحافظ تونس على حياد تام. لذا لم يكن هناك تأثير كبير على العلاقات بين دول المغرب العربي.
صحيح أن التوتر مع المغرب تصاعد، لكن الجزائر لا تسعى لاستقلال الصحراء بقدر ما تسعى إلى تطبيق الاتفاق الذي وُقّع بين البوليساريو والمغرب برعاية الأمم المتحدة، أي تنظيم استفتاء قد يؤدي إلى الحكم الذاتي أو الاندماج مع المغرب، وهو ما لن تعارضه الجزائر.
لننتقل الآن إلى الشأن الداخلي الجزائري. العام الماضي، استخدمت حكومة تبون الخطاب المعادي لفرنسا لتعزيز شرعيتها. ما هو دور فرنسا في الخطاب السياسي الجزائري؟ وما هو دور الجيش في تحديد السياسات الداخلية والخارجية؟
فرنسا تحتل مكانة خاصة في المخيال السياسي الجزائري: هي هدف سهل. في السياق الجزائري، مهاجمة فرنسا تظل خطوة قليلة المخاطر وعالية المكاسب. حتى المعارضون لا يدافعون عن فرنسا عادةً. هذه الظاهرة تعود إلى العبء الرمزي الذي لا تزال العلاقة الاستعمارية تحمله، وإلى فشل فرنسا في الاعتراف الكامل بجرائمها الاستعمارية.
مؤسساتيًا، ترتكز السلطة الجزائرية على ثلاثة أعمدة: الرئاسة، والجيش، وأجهزة الاستخبارات. بعد مرض وسقوط بوتفليقة، ضعف وزن الرئاسة والاستخبارات، مقابل صعود نفوذ الجيش الذي أصبح الفاعل الرئيسي.
منذ انتخابات ديسمبر 2019، أُعيد بناء توازن جديد: رئاسة تتمتع بصلاحيات واسعة، وجيش قوي يحجم عن التدخل اليومي في السياسة. حصل رئيس الأركان على زيادة ضخمة في الميزانية العسكرية ومنصب وزير الدفاع، مما منحه سيطرة واسعة.
هذا التوازن بين الجيش والرئاسة يعمل على قاعدة “عدم التدخل المتبادل”، لكنه أضعف آليات التوازن الديمقراطي، وضيّق مجال الإصلاحات الحقيقية.
كثيرًا ما يتمّ التطرّق إلى موضوع فرنسا خلال الأحداث السياسية في الجزائر. ألا تعتقد أنّ الخطاب السياسي الجزائري يحتفظ لفرنسا بدور “كبش الفداء” إلى حدّ ما؟
هذا ليس ظاهرة استثنائية، لأنّ فرنسا تُعدّ موضوعًا سهلًا. غير أنّ هذه السهولة موجودة أيضًا في فرنسا؛ إذ يتمّ استغلال مسألة الهجرة، خصوصًا من الجزائر، بانتظام في النقاش السياسي الفرنسي.
لذا، فإنّ كثرة ذكر فرنسا في الخطاب السياسي الجزائري لا تعني أنّها تمثّل أولوية جديّة أو هيكلية. في الواقع، فرنسا ليست قضية محورية لا بالنسبة إلى الشعب الجزائري، ولا للنخب السياسية، ولا حتى للجيش. إنّما يتمّ استحضارها كردّة فعل رمزية خلال بعض الفترات السياسية.
فعليًا، لو سافر فرنسي إلى الجزائر، لاستُقبل بحفاوة من قبل المواطنين والسلطات على السواء. وعلى العكس، فإنّ المهاجر الجزائري المقيم في فرنسا يتمتع بحقوق وحماية اجتماعية أفضل بكثير ممّا هو متاح في العديد من الدول الإفريقية الأخرى. وهذا يدلّ على أنّ العلاقة الواقعية على الأرض غالبًا ما تكون أكثر سلمية ممّا يوحي به الخطاب السياسي.
الوضع في شمال مالي، على الحدود الجزائرية، لا يزال متوتّرًا. ففي الأوّل من أبريل، اخترقت طائرة مسيّرة من طراز “أكينجي” تابعة للجيش المالي الأجواء الجزائرية لمسافة كيلومترين قرب تينزاواتين، قبل أن تسقطها القوات الجزائرية. هل يمكنك شرح ديناميكيات هذا النزاع؟
ينبغي وضع الأمور في سياقها الصحيح الذي يمتد لأكثر من ثلاثة عشر عامًا. فقد دخلت مالي في مسار سياسي معقّد شمل تمرّدًا انفصاليًا أو ذات طابع استقلالي في شمال البلاد، تزامن مع وجود جماعات جهادية تابعة للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.
وقد لعبت الجزائر دور الوسيط، وأطلقت عملية سلام تُوّجت عام 2015 بتوقيع “اتفاقيات الجزائر” بين السلطات المركزية المالية والمجموعات المسلّحة في الشمال. نصّت هذه الاتفاقيات على تخلي الجماعات الموقّعة عن مطالب الاستقلال، والانخراط في المسار السياسي، وإمكانية الاندماج في مؤسسات الدولة المالية، لا سيّما الجيش والشرطة، اللذين كانت بعض المكوّنات، مثل الطوارق والعرب، قد عانت طويلًا من التمييز في الالتحاق بهما.
فرّقت الجزائر بين فئتين من الفاعلين: الجماعات السياسية المسلّحة التي وقّعت الاتفاقيات والتي ينبغي التحاور معها، والجماعات الإرهابية التي يجب محاربتها دون هوادة.
غير أنّ هذا التوازن الهش انهار مع الانقلابات المتتالية في مالي وظهور المجلس العسكري المدعوم عسكريًا من روسيا وشركة فاغنر الخاصة. فقد أعلنت الحكومة المالية الجديدة من جانب واحد بطلان “اتفاقيات الجزائر”، وجرّمت جميع الجماعات المسلحة، بما فيها تلك المنخرطة في مسار سياسي. وأصبح كلّ شكل من أشكال المعارضة يُساوى بالإرهاب، مما ألغى التمييز بين الفاعلين السياسيين والجماعات الجهادية.
من جهتها، تواصل الجزائر التمسك باعتبار “اتفاقيات الجزائر” صالحة، ولا تعتبر الجماعات السياسية في الشمال جماعات إرهابية خلافًا لموقف المجلس العسكري المالي. كما استضافت الجزائر قادة سياسيين ماليين وقدّمت ملاذًا للمدنيين الفارين من العنف، واستمرّت في التنديد بوجود فاغنر في مالي، وهو ما ظهر ميدانيًا خلال مواجهة تينزاواتين في يوليو 2024، حيث مُنيت قوات فاغنر بخسائر فادحة.
أدّى هذا التوتّر إلى برودة في العلاقات بين الجزائر وروسيا، إذ ترى الجزائر أنّ موسكو باتت تلعب دورًا مفرطًا في المنطقة، بما يتعارض مع التوازنات الدبلوماسية التاريخية.
وكيف أثّر هذا التاريخ على علاقات الجزائر مع روسيا، مع العلم أنّ الجزائر تحتفظ بعلاقات وطيدة مع موسكو؟
العلاقات بين الجزائر وروسيا أعقد مما تبدو عليه. صحيح أنّ الجزائر من كبار مشتري السلاح الروسي، وأنّ الروابط العسكرية تاريخيًا قوية، لكن لا يوجد تقارب سياسي حقيقي بين الجزائر وموسكو. بل إنّ البلدين يتنافسان في بعض القضايا الاستراتيجية، مثل الغاز.
حين غزت روسيا أوكرانيا، رفضت الجزائر الانحياز إلى الموقف الروسي. وعلى عكس ما توقعه البعض، لم تقم الجزائر بتقليص إمدادات الغاز إلى أوروبا — وهو ما كان سيخدم مصالح موسكو عبر تعميق أزمة الطاقة — بل زادت من صادراتها إلى أوروبا، مما ساعد على الحدّ من ارتفاع الأسعار وضمان الإمدادات للقارة. ولم يُستقبل هذا القرار بارتياح في موسكو.
دبلوماسيًا، تبنّت الجزائر سياسة “الحياد النشط”. لم تُغلق سفارتها في كييف، واستمرّت السفارة الأوكرانية بالجزائر في العمل بشكل طبيعي، مع علاقات ودّية بين الممثلين الأوكرانيين والسلطات الجزائرية. بل إنّ الدبلوماسيين الأوكرانيين كانوا يُدعون بانتظام إلى الاستقبالات الرسمية جنبًا إلى جنب مع نظرائهم الروس. ومع أنّ الجزائر لم تُدين العدوان الروسي صراحة، فإنّها لم تدعمه أيضًا: فهي لا تعترف بضمّ القرم ولا بالأراضي الأوكرانية الأخرى. ولم تقدّم أي دعم عسكري لروسيا، كما امتنعت عن تقديم دعم ملموس لأوكرانيا.
هذا الموقف يجسّد خطًا دبلوماسيًا يقوم على الحياد البراغماتي، دون عداء ولكن دون انخراط. وهو موقف تنظر إليه موسكو بشيء من الخيبة، إذ تعتبر أنّ الجزائر كان يمكنها أن تُبدي مزيدًا من التضامن، في وقت صار فيه حلفاء روسيا الحقيقيون قلائل. أما الجزائر، فتواصل الدعوة إلى وقف القتال والعودة إلى حلّ سياسي.
وما هو دور الجزائر في الشأن المالي؟
على عكس ما يعتقده البعض، لم تقدّم الجزائر أي دعم لوجستي أو مادي أو سياسي لوجود فاغنر في مالي. لا توجد “مَديونية” جزائرية تجاه روسيا بهذا الخصوص. وحده حادث واحد في 2020 قد سبّب بعض الالتباس: إذ عبرت طائرة قادمة من روسيا الأجواء الجزائرية في طريقها إلى مالي، ولم يكن آنذاك معروفًا على وجه الدقة هوية ركّابها، رغم الاشتباه بكونهم عناصر من فاغنر. لكنّه كان حادثًا معزولًا.
منذ 2021، تبنّت الجزائر موقفًا نقديًا واضحًا تجاه وجود فاغنر بالمنطقة، وتزايد هذا النقد مع مرور الوقت، خصوصًا منذ أحداث تينزاواتين سنة 2024. حينها عبّرت الجزائر عن رفضها الصريح لتقدّم فاغنر عبر إشارات دبلوماسية وأمنية صريحة، دون الدخول في مواجهة مفتوحة.
في سبتمبر 2024، أُحبطت محاولة ثانية لفاغنر لتعزيز وجودها بالمنطقة، ويرجّح أنّ الجزائر كان لها دور حاسم في إفشالها عبر موقفها الحازم. ويبدو أنّ روسيا، إزاء هذا الرفض، مارست ضغوطًا على فاغنر للتراجع. وهكذا، قد تكون الجزائر قد لعبت دورًا حاسمًا بشكل غير مباشر بدعمها للمجموعات الطوارقية المناهضة لفاغنر، مما أسفر عن هزيمة ثقيلة لعناصر فاغنر في تينزاواتين، حيث قُتل مئات المقاتلين الروس.
أخيرًا، هل يمكنك أن ترسم لنا ملامح السياسة الخارجية الجزائرية، وعلاقاتها مع القوى الكبرى ومصالحها؟ وما هي الديناميكيات الحالية؟
أودّ أن أضيف أنّ الموقف الجزائري تجاه روسيا، وإن كان محايدًا، فإنّه مشوب بصداقة تاريخية. الروابط العسكرية تبقى قوية، لا سيّما عبر مشتريات الأسلحة الروسية، لكن هذا القرب لا يعني بالضرورة تقاربًا سياسيًا. الجزائر مصمّمة على الحفاظ على استقلالها، وتوازنها، وعدم انحيازها.
العلاقات مع الولايات المتحدة جيّدة للغاية. تجمع الجزائر وواشنطن علاقة احترام متبادل ومصالح استراتيجية مشتركة، خصوصًا في مجال الطاقات البديلة. وترى الجزائر في الولايات المتحدة شريكًا موثوقًا وصديقًا قديمًا.
فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، تمرّ العلاقة بمرحلة إعادة تقييم. فقد شكّكت الجزائر مؤخرًا في اتفاق الشراكة مع الاتحاد، معتبرةً أنّه لم يعد يعكس مصالحها، وتطالب بإعادة التفاوض لتحقيق علاقة أكثر توازنًا. وفي هذا السياق، تُعدّ إيطاليا الشريك الأوروبي الرئيسي للجزائر، حيث تطوّرت بين البلدين علاقات استراتيجية واقتصادية قوية، تعزّزت مؤخرًا تحت حكومة جورجيا ميلوني. والصداقة بين روما والجزائر تعود إلى ما قبل الاستقلال الجزائري، ولم تتوقف عن النمو منذ ذلك الحين.
أما تركيا، فهي تزداد أهمية كشريك اقتصادي للجزائر، وهي اليوم أوّل مستثمر أجنبي غير مرتبط بالمحروقات في البلاد. ويأتي هذا التقارب ضمن سياسة تنويع الشراكات الاقتصادية.
على المستوى الإقليمي، تقوم السياسة الخارجية الجزائرية على الاستقرار والتعاون. وتحافظ الجزائر على علاقات جيّدة مع المجتمعات العربية في الساحل، ومع جيرانها في المغرب العربي. وقد شُكّلت حديثًا تحالف ثلاثي مع تونس وليبيا بهدف تنسيق الاستجابات الإقليمية بشكل أفضل. وقد أُحرز تقدم ملحوظ، خصوصًا في مجال النقل — مع افتتاح خطوط السكك الحديدية بين الجزائر وتونس — وأيضًا في مجال تقاسم الموارد المائية، وهو أمر حاسم في منطقة قاحلة. ويمثّل الاتفاق الثلاثي في هذا المجال عامل استقرار مهمًا للمستقبل.