د. عبد السلام المياحي
يعيش العالم اليوم مرحلة مفصلية قد تُسمى بحق “عصر ما بعد العلم”، وهو ليس عصرًا ينكر العلم، بل يعيد تعريفه. في هذه المرحلة، تتجاوز البشرية فكرة الالتزام الحرفي بالقواعد العلمية الراسخة إلى نموذج جديد قائم على “تصحيح العلم” نفسه. ولم يعد هذا التصحيح محصورًا بالنظريات أو المفاهيم، بل بات جزءًا من سباق عالمي بين الشرق والغرب، حيث تبرز الصين والولايات المتحدة كقطبين رئيسيين في إعادة تشكيل هذا المشهد.
في الشرق، تتقدم الصين بسرعة نحو نمط جديد من الابتكار يستند إلى تجاوز المبادئ الراسخة، بينما في الغرب، تظهر المرحلة “الترامبية” بقيادة “إيلون ماسك” كحالة استثنائية تسعى إلى تغيير اللعبة من الداخل. هذان الطرفان يعيدان صياغة مفهوم “القواعد العلمية” بطرق مختلفة، ولكنهما يتفقان في المبدأ: الثابت الوحيد هو التغيير.
الصين؛ عبور المناطق الرمادية في المعرفة
لم تعد الصين مجرد “مصنع العالم”، بل تحولت إلى مختبر عالمي لإعادة صياغة المبادئ العلمية، وهو واقع نعيشه اليوم أو سنشهده بوضوح قريبًا. بعيدًا عن الالتزام الصارم بالأسس الثابتة التي وضعتها المدارس الغربية، تبنّت الصين نهج المرونة الفكرية والتقنية مدفوعة برؤية هادئة ولكن عميقة.
بدلًا من الاقتصار على تطبيق القوانين العلمية أو التمسك بالروتين الأكاديمي التقليدي، تسعى الصين إلى إعادة تفسير القواعد، بل وتشجع على تجاوز الحدود المفروضة على الفكر العلمي. ولعل أبرز أدواتها في هذا المسار هو استغلال ما يُعرف بـ”المناطق الرمادية” في المعرفة العلمية، وهي تلك المساحات الغامضة وغير المحددة التي طالما تجاهلها الغرب بدعوى “الوضوح والدقة”.
في هذه المساحات غير المستكشفة، ترى الصين فرصتها الحقيقية للريادة، حيث تتيح هذه المقاربة لها تحقيق قفزات نوعية في الابتكار والتكنولوجيا، مما يمنحها القدرة على تحدي النماذج العلمية الغربية التقليدية، بل وربما قيادة مستقبل المعرفة العلمية على المستوى العالمي.
هذه الاستراتيجية تمنح الصين قدرة هائلة على تحقيق اختراقات مفاجئة قد تبدو للعالم قفزات غير منطقية في العلم والتكنولوجيا. ويمكن القول إن الصين تدرك جيدًا أن أسرار التكنولوجيا لم تُكتشف بعد، لذا فإن منهجها يقوم على مبدأ أن التكنولوجيا ليست محصورة بما نعرفه، بل بما يمكننا استكشافه خارج حدود العلم التقليدي.
النتيجة؟
قد يكون العالم على موعد مع قيادة علمية صينية تُعيد صياغة مفاهيم مثل الذكاء الصناعي، الحوسبة الكمية، والروبوتات الذكية، مع قدرة على تغيير قواعد اللعبة العلمية تمامًا.
الولايات المتحدة: “المرحلة الترامبية” بقيادة “إيلون ماسك”
على الطرف الآخر من العالم، تقود الولايات المتحدة نهجًا مختلفًا لكنه لا يقل جذرية عن النهج الصيني. وهنا يبرز دور “إيلون ماسك” الذي يمثل بوضوح “العقلية الترامبية” في طريقة تعامله مع العلم والتكنولوجيا.
لكن، ما الذي نعنيه بـ”المرحلة الترامبية”؟
إنها ليست بالضرورة مرتبطة بشخص ترامب، بل تشير إلى عصر من الجرأة الخارقة، حيث تُتخذ القرارات بعيدًا عن الأعراف التقليدية، مع التركيز على المجازفة الواعية وتسريع التغيير الجذري. “إيلون ماسك” بتوجهاته الراديكالية، يُجسد هذا الأسلوب في كل مشروع يقوده، سواءً كان مشروع “ستارلينك” لتحرير الاتصالات العالمية، أو “تسلا” لإعادة اختراع النقل، أو “سبيس إكس” لاستعمار الفضاء، أو غيرها في طريقه الى النور، وهناك مشاريع أخرى تبرز في لحظة فيما يصعب توقفه على ماسك نفسه، هذا هو عصر التكنولوجيا!
ما يميّز “إيلون ماسك” هو أنه لا ينتظر اكتمال النظريات العلمية، بل يندفع لتطبيقها حتى لو بدت ناقصة، يتجلى ذلك عنده في اختيار اسم “تسيلا” كعالم ومخترع عظيم غير تقليدي قبل أكثر من قرن. إن هذا النهج يعكس جوهر فلسفة “التغيير بالمغامرة”، وهو أمر قد يبدو قريبًا من النهج الصيني، لكن بأسلوب أمريكي يتميز بالقدرة على “تحويل الفوضى إلى نظام”.
“إيلون ماسك” ليس مجرد رجل أعمال، بل هو مهندس لثورة فكرية وتكنولوجية كبرى، يقود ما يمكن وصفه بـ “تحول البارادايم” (Paradigm Shift) في المشهد العلمي والصناعي الأمريكي. بينما يميل العلماء التقليديون إلى مقاومة التغيير والتمسك بالنظريات الراسخة، يتقدم ماسك بجرأة غير تقليدية، دافعًا نحو مستقبل لا يقبل الانتظار.
في أروقة السيطرة على العالم من خلال العلم والتكنولوجيا، يبدو أن هناك صراعًا محتدمًا بين معسكرين: معسكر يقوده ماسك برؤية جديدة تسعى إلى إعادة تعريف الممكن، ومعسكر آخر يتألف من “حرّاس المعبد” الذين يتمسكون بالقواعد والأسس التي نشأوا عليها.
هذه الظاهرة ليست غريبة إذا ما استحضرنا فلسفة “توماس كون” حول “بنية الثورات العلمية”، حيث يرى “كون” أن التحولات الجذرية لا تأتي من داخل المنظومة التقليدية، بل غالبًا ما يقودها “غرباء” عن النظام، أشخاص يمتلكون الجرأة لتحدي الأسس القديمة وكسر القواعد التي يقدّسها أهل الاختصاص.
بهذه الرؤية، يمكن اعتبار ماسك “الغريب” الذي يقلب الموازين، بينما يقف في مواجهته كهنة المعرفة التقليدية، الذين يرون في أفكاره تهديدًا لبنيان استقر لعقود. لكن التاريخ علمنا أن الثورات الكبرى لا تحدث إلا بمواجهة هذه المقاومة، و”ماسك” يبدو مستعدًا لمواجهة هذا التحدي، تمامًا كما فعل “كوبيرنيكوس” و”غاليليو” في مواجهة “حرّاس المعبد” في عصورهم.
مقاومة التغيير: الإنسان والمادة تحت قانون القصور الذاتي
سواء في الصين أو في الغرب، يواجه العقل البشري مقاومة داخلية للتغيير، وهذه ظاهرة يمكن فهمها من خلال تشبيه الإنسان بالمادة وفقًا لقانون القصور الذاتي. في الفيزياء، تقاوم المادة تغيير حالتها الحركية، والإنسان، بتركيبته النفسية والاجتماعية، يقاوم التغيير في أفكاره وقناعاته.
ولكن هناك استثناء “من كان حنيفًا بحق”، وهو من يتحلى بالاستعداد الفطري لتقبل الحقيقة أينما كانت دون التشبث بالأفكار القديمة.
في هذا السياق، فإن العلماء الغربيين الذين يمثلون “المدرسة العلمية الكلاسيكية”، غالبًا ما يقاومون النظريات الجديدة، كما حدث مع فكرة “تحول البارادايم” التي وصفها “توماس كون” لكن في العصر الحالي، ومع دخول الصين والولايات المتحدة في صراع القيادة العلمية، لم يعد بوسع أحد الوقوف ضد المدّ الجديد.
أعداء العلم أم مُجدّدو العلم؟
يظهر في هذا الصراع نوعان من الفاعلين:
- أعداء العلم: هؤلاء ينكرون الحقائق بدوافع أيديولوجية أو مصالح شخصية، وغالبًا ما يروجون للشائعات ضد التطورات العلمية.
- مجدّدو العلم: وهم الذين يدركون أن “العلم ليس منظومة مغلقة من الحقائق النهائية”، بل عملية مستمرة من التصحيح الذاتي.
في الصين، تُجسد القيادة الفكرية هذا التوجه، حيث لا يُنظر إلى العلم على أنه كتاب مغلق، بل مسودة قابلة للمراجعة. أما في الولايات المتحدة، فإن “المرحلة الترامبية” تقودها نماذج مثل “إيلون ماسك” حيث يصبح الشك في القواعد القديمة ضرورة ابتكارية.
الخلاصة: إلى أين نحن ذاهبون؟
إذا كان القرن العشرين هو عصر العلم، فإن القرن الحادي والعشرين هو عصر تصحيح العلم، حيث تتحول المعرفة من مجرد “ثوابت” إلى مساحة مرنة تُعاد صياغتها باستمرار.
في هذا العالم الجديد، تظهر قطبية علمية ثنائية بين الصين والولايات المتحدة حيث تقود تمثيل الغرب كما يبدو.
- الصين: مرونة المعرفة واستغلال المناطق الرمادية لتحقيق قفزات نوعية.
- الولايات المتحدة: الفوضى المُنظمة بقيادة الترامبيين الجدد، وعلى رأسهم “إيلون ماسك”.
هذه الثنائية تعكس نموذجًا جديدًا في التعامل مع قواعد المعرفة. لم تعد النظرية العلمية تُعتبر نهاية المطاف، بل بداية لطريق جديد من التساؤل المستمر.
هل سيكون العالم تحت قيادة الصين؟ أم ستظل الولايات المتحدة قادرة على قيادة المشهد بقيادة أقطاب مثل “إيلون ماسك”؟
الإجابة ربما تكمن في مدى قدرة كل طرف على تجاوز قصوره الذاتي، فالقانون الذي يحكم المادة هو ذاته الذي يحكم العقل البشري.