وحدة استطلاع الرأي في المرصد
خلفت الحرب السورية آلاف المعتقلين الذين غيبتهم سجون النظام ومعتقلاته منذ اندلاع الثورة عام ٢٠١١ ليظلوا مجهولي المصير، حيث تحتجزهم الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في ظل أوضاع بالغة القسوة ويتعرضون للتعذيب، وقد يواجهون القتل أوالموت من شدة التعذيب والجوع وانتشار الأمراض.
أحمد الشحن (٢٩عاماً) من معرة النعمان ذهب إلى مدينة حماه في ١٣/٥/٢٠١٤ لقبض راتبه، لكنه لم يعد بعدها إلى أهله وبيته، وعن ذلك تتحدث والدته قائلة: (اعتقل ولدي من قبل أحد الحواجز الأسدية، وهذا كل ما استطعنا معرفته عن طريق سائق الحافلة التي كانت تقله، ومن دون أن نعلم حتى اليوم أي معلومات عن سبب اعتقاله أو الحال التي آل إليها.
وتضيف بحزن: (نعيش حياة قاسية ملؤها الهم والحزن في ظل غيابه، والأمور كلها مؤجلة إلى حين عودته، لكنني في بعض الأحيان أتمنى له الموت على التعذيب داخل سجون عناصر النظام الذين لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلوبهم).
أين هم؟!
قد أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً بعنوان (أين هم؟) وثق ما لا يقل عن ٨٥ ألف مختف قسرياً لدى الجهات الفاعلة في سوريا، مشيراً إلى أن النظام السوري مسؤول عن ٩٠ في المئة من عمليات الإخفاء القسري ضد معارضيه واستخدامه بصورة ممنهجة ضد أطياف الشعب السوري جميعها، وقد عرف التقرير المختفي قسرياً بأنه المعتقل الذي مضى شهر كامل على آخر معلومات موثقة وردت عن مصيره من الجهة التي قامت باعتقاله، ويبقى الضحية في عداد المختفين قسرياً ما دامت الجهة المسؤولة عن إخفائه لم تعترف بوجوده لديها حتى إن وردت معلومات عن مكان احتجازه، لذلك فإن عمليات الاعتقال التي يقوم بها النظام في سوريا معظمها ارتقت إلى درجة الاختفاء القسري لأنها تجري عبر الحواجز أو المداهمات من دون مذكرات اعتقال، ويحرم المعتقلون من التواصل مع أهلهم أو محاميهم.
ومسألة الاعتقال التي ينتهجها النظام السوري ليست وليدة الثورة، فسجون النظام ومعتقلاته ظلت مزدحمة طوال عقود، وخصوصاً بعد الصدام بين النظام السوري وجماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن أعدادهم زادت بصورة مذهلة منذ اندلاع الثورة السورية في ١٥آذار ٢٠١١، وزادت معها معدلات القتل والموت تحت التعذيب في تلك السجون في ظل غياب أي نوع من الرقابة القضائية والقانونية على تلك المعتقلات العلنية منها أو السرية.
ففي محافظة إدلب وغيرها من المناطق المحررة فقد لجأ النظام السوري إلى عمليات الخطف والاعتقال ضد الأهالي أداة لسحق المعارضة والانتقام منهم، إضافة إلى الرغبة في الحصول على المال مستغلاً اضطرار كثير من سكان المحافظة إلى السفر إلى مناطق سيطرته والمرور على حواجزه المنتشرة بكثرة على الطرقات العامة، فيختفي كثير منهم وتنقطع أخباره عن أهله وذويه، ويعتبر أغلب المختفين من المعارضين السلميين أو ناشطي حقوق الإنسان أو الأطباء أو عاملي الإغاثة، وقد يعتقل الشخص فقط لتشابه اسمه مع اسم أحد المطلوبين أمنياً أو كونه قريباً له.
وليد العوض (٣٩عاماً) اعتقل من حاجز الأمن العسكري في مدينة حلب أثناء وجوده للدراسة في الجامعة وعن ذلك يتحدث شقيقه محمد قائلاً: (اعتقل أخي في ٣/٧/٢٠١٥ في مدينة حلب من دون أن نعلم التهمة التي لفقت ضده، الأمر الذي جعلنا نشك في أن سبب اعتقاله هو الرغبة في الضغط على والدي الضابط المنشق عن صفوف النظام وإجباره على تسليم نفسه، ومنذ ذلك التاريخ لم نتمكن من معرفة مصيره أو أي معلومة نطمئن بها عنه).
أوضاع لا إنسانية ومصير يكتنفه الغموض
كثير من المعتقلين الذين كتبت لهم النجاة يشهدون على الأوضاع المزرية داخل المعتقلات وسوء المعاملة والتعذيب وانتشار الأمراض.
عدنان السعود (٣٩عاماً) بقي في المعتقل أكثر من ثلاث سنوات يتحدث عن تجربة اعتقاله قائلاً: (من يدخل سجون النظام يجب أن يعتبر أن حياته قد انتهت، فقد تحولنا إلى محض أرقام وأكثر ما كنا نعانيه هو الوضع الصحي الذي كان سيئاً للغاية وكثرة الأمراض والأوبئة من دون تلقي العلاج، إضافة إلى التعذيب وازدحام غرف المعتقلات، فحتى النوم يكون مستحيلاً في كثير من الأوقات، إضافة إلى قلة الطعام والذل والإهانة التي نتعرض لها يومياً على يد السجانين، وقد فارق كثير من زملائنا الحياة تحت التعذيب أو بسبب المرض فيجري عادة نقل الجثث إلى مقابر جماعية في أماكن مجهولة، وهناك من أصيب بالجنون نتيجة الضرب على الرؤوس بالعصي).
باب للرزق والابتزاز المادي
كثير من المحامين والمسؤولين اتخذوا من مسألة الاعتقالات والإخفاء القسري باباً للرزق وابتزاز ذوي المعتقلين الذين يكون لديهم رغبة عارمة في معرفة مصير فقيدهم ويعيشون المعاناة والانتظار ويدفعون المال لقاء معرفة أي خبر عنه، فحجم التهمة وتورط مرتكبها لا تنفع إلا بزيادة مايجب دفعه أو إنقاصه، ولمن؟
والتحقيق مع المعتقل وطريقة تعذيبه يرتبطان عادة بقدرة الأهل على الوصول إلى السمسار الملائم وأداء المبلغ المطلوب بالسرعة الكافية، الأمر الذي يجعل فقر السوريين سبباً إضافياً لبقائهم في السجن.
عامر الحسن (٢٨عاماً) من مدينة إدلب يتحدث عن اعتقال والده قائلاً: (اعتقل والدي في نهاية عام ٢٠١٥ أثناء سفره إلى مدينة حماه لقضاء بعض الأمور، وقد حاولنا كثيراً معرفة مكانه، وأنفقنا كثيراً من المال لمعرفة أي معلومات عنه من دون جدوى، وقد تلقينا وعوداً لإخراجه من السجن، لنكتشف في ما بعد بأننا كنا ضحية خداع لابتزازنا مادياً).
اعتقال النساء معاناة مضاعفة
لم يستثنِ النظام السوري النساء من الاعتقال والتنكيل، لما لاعتقالهن من وقع مؤلم عند العائلات السورية، وما قد تتعرض له المرأة المعتقلة من استغلال جنسي من السجانين، ويقوم عناصر النظام باعتقال كثيرات من النساء لتجري مبادلتهن برهائن النظام المحتجزين لدى المعارضة واستخدامهن ورقة ضغط ضد عائلاتهن، لكن معاناة المرأة المعتقلة لاتنتهي حال خروجها من السجن والإفراج عنها، إذ تعيش صدمة نفسية شديدة وفقدان أي معنى للحياة بسبب نظرة المجتمع القاصرة التي لا تميز بين المذنية والضحية.
حنان (٣٠عاماً) من ريف حلب كانت تظن أن معاناتها ستنتهي حال خروجها من سجنها، ولكنها كانت مخطئة في ذلك، تتحدث لـ مينا عن معاناتها قائلة: (اعتقلت في مدينة حلب بسبب نشاطي في العمل الإغاثي، إذ تنقلت بين فروع عدة وبقيت في السجن حوالى تسعة أشهر قبل أن يطلق سراحي). وتضيف: (كنت أتعرض يومياً مع السجينات لأبشع أصناف التعذيب كالشبح وحرق الجسد بالسجائر إضافة إلى الصدمات الكهربائية وقلع الأظافر، أما الاغتصاب فكان الأسلوب الأكثر شيوعاً نوعاً من الترهيب والإذلال، مؤكدة أن عمليات التعذيب كانت تؤدي في كثير من الأحيان إلى الموت أو الإصابة بعاهات مستدامة أو إلى نوبات صرع هستيرية).
تبين حنان بأنها تعيش بعد خروجها معاناة مزدوجة، فتداعيات مرحلة ما بعد الاعتقال ليست أقل أذية من الاعتقال ذاته بسبب نظرة الوسط المحيط الذي يقابلها بالشفقة حيناً واللوم والاستغلال في كثير من الأحيان، الأمر الذي دفعها إلى الانتقال إلى ريف إدلب خوفاً من اعتقالها ثانية ورغبة في نسيان آلام الماضي وإخفاء مرحلة قاسية من عمرها.
ريمة السعيد (٤٠عاماً) من مدينة إدلب مهتمة بشؤون الناجيات من الاعتقال تتحدث عن معاناة المعتقلات السوريات بقولها: (أصبحت الخارجة من السجون على الرغم مما تحمله من ندوب جسدية ونفسية أشبه بالنكرة في بيئتها، وتلام على جرأتها وينظر إليها بوصفها مذنبة لا ضحية، لتجد نفسها أمام معاناة جديدة، في الوقت الذي تكون في أمس الحاجة إلى مراكز تأهيل تحتضنها وتعيد الثقة إلى نفسها لتتخطى أزمتها وتتجاوز آلام التعذيب وظلمة الزنزانات).
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد النساء المعتقلات بحوالى ٨٠٠٠ معتقلة، فيما تؤكد كثير من الجهات الحقوقية أن عدد السوريات اللواتي تعرضن للاعتقال التعسفي والاختفاء القسري بأكثر من ١٣٥٠٠ امرأة منذ عام ٢٠١١ وحتى نهاية عام ٢٠١٧، فيما أكد ناشطون أن الأعداد أكثر من ذلك لأن كثيراً من الأهالي لا يجرؤون على توثيق أسماء أبنائهم وبناتهم المعتقلين لدى المنظمات الحقوقية خوفاً من الملاحقة الأمنية وحرصاً على سلامة ابنهم المعتقل.
زوجات المعتقلين والمعاناة المستمرة
يعتبر ذوو المختفين قسرياً ضحايا أيضاً نظراً إلى المشكلات القانونية والنفسية والاجتماعية التي يمرون بها، كما خلف انتشار ظاهرة الاعتقال العشوائي الذي ازدادت وتيرته في ظل الحرب شريحة واسعة من (زوجات المعتقلين) وهي الصفة التي تصبح ملازمة لهن، ومحدداً أساسياً لمسير حياتهن، حيث يكن في مواجهة أوضاع اجتماعية واقتصادية صعبة مع فقدان الأمان وعدم الاستقرار نتيجة مصير الزوج المجهول والحاجة المادية.
عائشة الحسن (٢٥عاماً) من معرة النعمان اعتقل زوجها في ١٣/٤/٢٠١٤ لتظل مع أولادها الثلاثة، أكبرهم في الرابعة من عمره، لتجد نفسها عاجزة عن الإنفاق عليهم، وتأمين منزل يؤويها وإياهم، فلجأت إلى بيت أهلها منتظرة عودة زوجها المفقود على أمل الإفراج عنه.
تؤكد عائشة أنها طلبت تدخل أحد الوسطاء للتحري عن مصير زوجها الذي أكد أنه قضى في سجون النظام، لتعيش بعد ذلك صراعاً بين رغبة أهلها في تزويجها من رجل آخر وخوفها على أبنائها ومذمة المجتمع لها.
آلاف العائلات السورية التي فرقتها الحرب تنتظر بيأس أي أخبار عن أحبائهم الذين اختفوا، حيث يعد الإخفاء القسري أحد أقسى انتهاكات حقوق الإنسان وأكثرها لا إنسانية، بعد أن جعله النظام السوري حملة منظمة لنشر الرعب والخوف بين الناس لسحق أدنى بادرة لمعارضته في أنحاء البلاد، الأمر الذي يضع المجتمع الدولي أمام ضرورة تحمل مسؤولياته للعمل على الوقف الفوري لظاهرة الإخفاء وإطلاق سراح المعتقلين، وتشكيل مؤسسة مستقلة للتحقيق في مصير المختفين قسرياً وأماكنهم.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.