أحمد الرمح: باحث وكاتب
نتيجة الهزيمة الحضارية التي مُني بها مجتمعنا أمام الآخر، وحالة التخلف العلمي الشديد التي تركته لنا قوى كثيرة تناوبت على حكمنا باستبداد من دون شرعية، دخلت أفكار مستوردة إلى مجتمعنا؛ حملها أبناء هذا المجتمع الذين تعلموا في الخارج أو اطلعوا على ثقافته وتجاربه، طرحت تلكم الأفكار حلولاً لمعالجة المشكلات المستعصية، ولقد أخطأ حملة تلك الأفكار بعدم مراعاة طبيعة المجتمع المتدينة، إذ قدموها بشكل راديكالي، تجاوزوا فيها سنة التدرج في التقديم، فصُدِم الاستبداد بهذا الطرح الذي يسحب البساط من تحته، وكذلك المؤسسة الدينية المتحالفة مع الاستبداد، المتخلفة في كل شيء، المتقوقعة على كتب صفراء، اعتقدت أن الحلول موجودة فيها، فتولدت فينا أزمة الخوف من الحرية.
والسؤال: لماذا يخافون من الحرية؟ ولِمَ يخيفوننا منها؟ وما غايتهم؟
يخيفوننا منها بادعاء أن الحرية ليست إلا الفساد الأخلاقي والإباحية الجنسية، والخروج عن المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وهذا ليس صحيحاً.
فالحرية هي المسؤولية، وفكرياً هي حق النقد الموضوعي البعيد عن الإساءة إلى رموز الآخرين ومقدساتهم.
بتلك الذريعة -الخوف من الحرية- أخذت الأصوات تعلو بمنع أي رأي أو عمل إبداعي يختلف معنا بأفكاره ومفهوماته وطريقته في حلَّ الأزمة. وباركنا كل قرار يصدره الاستبداد وتعاونت معه المؤسسة الدينية في منع هذا العمل أو ذاك، بذريعة المحافظة على هوية المجتمع، وتلك كلمة حق أريد بها باطل.
سلوك منع الرأي الآخر ليس من الإسلام، إنها مكارثية بدعوى الخوف على الإسلام، تولدت نتيجة الفشل أمام المعاصرة بحجة الخوف على طهرانية النص الديني من التأويل المحتمل. وهذا ما يرفضه القرآن الكريم لسبب بسيط، أن الإسلام لم يخف أبداً من الحرية، بل شجع عليها دائماً، ودعا الجميع لطرح أفكارهم من دون أي خوف منها، وطالب صاحب كل رأي بالمبدأ العلمي والبرهان التحليلي:
قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:111).
ودعا إلى مناقشة الأفكار كلها في جو من الحرية فما كان صحيحاً سيبقى، وما كان مزيفاً سيولي بلا رجعة، والشارع هو الحكم ولقد أكد تلك الحقيقة بقوله:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ(الرعد:17).
وانتبه إلى قوله تعالى (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ) ولم يقل: وأما ما ينفع المسلمين. لأن الإسلام في مقاصده يبحث عن المنفعة العالمية لا المنفعة الضيقة.
كان من الواجب علينا أن نحَصَّن المجتمع علمياً وعقلياً، ونزرع فيه المضادات الحيوية الثقافية التي تجعله منيعاً أمام أي فكر منحرف لا أن نمارس الوصاية عليه، ونسلك سلوكاً فرعونياً (لا أريكم إلا ما أرى).
علينا أن نعترف بحقيقة وهي أن كل من يخاف الحرية، إنما يخاف على معرفته الناقصة، ويخاف أن ينكشف جهله وتفضح عورته الثقافية والمعرفية وتهزم أمام الحقيقة والعقل، أما الإسلام فلا يخاف الحقيقة ولا الحرية لأنه أول مَنْ صَدَّرَها ودعا إليها، وليست لديه عورات يخاف أن تنكشف.
أشار القرآن الكريم إلى تلك القضية حينما طرح المخالفون أفكارهم، فعالجها بسلام إذ قال:
وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سبأ:24و25)
إن الحرية كانت مطلب رسول الله، فحينما رفض مستكبرو قريش رسالته، ومنعوه من طرح أفكاره، لم يجبرهم عليها، ولم يمارس ثقافة القطيعة معهم، بل طالبهم بالحرية فقط، وتحداهم بها على أن يكون الناس هم الحكم على ما يطرح، وكان يصرخ قائلاً: (خلّوا بيني وبين الناس). أي امنحوني حرية طرح أفكاري على الناس.
إن مصادرة آراء الآخرين مصادرة لحرية التعبير التي كفلها الإسلام للجميع، أما نحن علينا أن نرد الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، لا أن نمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم. ونمارس استبداداً يهدم كل ما كنا ندعو إليه، عندما كانوا يستبدون بنا.
وأما الذين يخافون الحرية، فإنهم يخافون على معرفتهم الناقصة، من أن تكشف عوراتها أمام العقلانية والإبداع والرأي الآخر، وهذا المجتمع لم يعد قاصراً، حتى تتولوا الحديث باسمه، ولم يعد أبكماً، فهو يعرف كيف يعبر عن مراده، وإنْ أردتم إبداعاً وتنمية ونهضة وتحضراً فامنحوا المجتمع الحرية، وهو يعرف كيف يعقلنها، لينهض مرة أخرى محطماً قيود التقليد، وأغلال التخلف، وسينهض كما العنقاء من تحت الرماد.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.