نجم الدين نجم: كاتب تنويري وصحفي
استوقفتني مقالة نشرتها منذ بضعة أسابيع، منصة “ميدان” الثقافية -وهي منصة صحافية تابعة لمجموعة الجزيرة الإعلامية- كان محورها المفكر المصري “فرج فودة”، الذي اغتيل على يد متطرفين إسلاميين في تسعينيات القرن الماضي، بعد تكفيره وزندقته من مجموعة من رجال الدين في مؤسسة “الأزهر” الإسلامية وآخرين من رجال التيار الإسلامي في مصر.
عنوان المقال الذي نشرته المنصة: “فرج فودة. مفكر حقيقي أم صنم صنعته البروباغاندا”، يلخص الهدف والمراد من كتابته، فبعد أن استعرض المقال ببضعة أسطر المشكلة الفكرية والسياسية بين “فودة” والتيار الإسلامي في مصر، دخل مسرعاً في صلب الفكرة، وهي تقويم “فودة” مفكراً أم غير مفكر، بعيداً عن موته الذي “يستدعي مخزوناً هائلاً من الجدل”، بحسب وصف “مجموعة المحررين” الذين كتبوا المقال.
وجاء في المقال أن “كتابات فودة تتراص في عقد لا نشاز في نظمه، حيث تشكل الدعوة إلى العلمانية الخيط الناظم لأفكاره بصورة مضطردة. إلا أن ما يمكن ملاحظته كذلك بجلاء، أن فودة ابتعد عن الأسس المعيارية والفلسفية التي عادة ما يستند إليها منظرو العلمانية” مضيفاً “سواء اتفقت أم اختلفت مع فودة، وبعيداً عن موقفك الأخلاقي تجاه قتله، فإن غياب المنهجية المعرفية في طرحه يضع أسئلة عدة، حول ما إذا كانت العلمانية لديه مدعّمة بأساس فكري رصين، أم إنها تمثل في طريقة طرحها مجرد تناوش سياسي”.
واعتبر المحررون كُتّاب المقال أن “فودة” لم يقدم فلسفته العلمانية المضادة لفكرة الحاكمية التي يؤمن بها خصومه، بشكل معرفي رصين كما فعل أقرانه، وقارنوا بينه وبين بعض المفكرين من الذين كتبوا عن العلمانية، مثل وائل حلاق وعبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة وغيرهم، واستمر المقال المنشور بعرض توجهات وآراء “فودة” الفكرية المعادية لأفكار التيار الديني، وكذلك رؤاه السياسية التي تدعو إلى تبني سياسة سلمية قائمة على التعاون والتبادل مع دول الجوار بما فيها إسرائيل، ليصبح “فودة” عقب هذه السردية غير البريئة والمعتادة من مؤسسات أسطول الإخوان المسلمين الإعلامي، في جانب معاكس ومضاد مع أفكار الشعب المصري المسلم والعروبي، على طرفي نقيض.
وعرّج المقال مسرعاً على المناظرة الشهيرة “مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية” التي حضرها 30 ألف شخص، بين فرج فودة ومحمد خلف الله من جهة، وأعلام التيار الإسلامي في مصر، من أمثال الشيخ محمد الغزالي ومرشد جماعة الإخوان المسلمين مأمون الهضيبي، ومحمد عمارة.
المناظرة الشهيرة التي جرت في الثامن من كانون الثاني/ يناير سنة 1992، لم يمضِ عليها إلا بضعة أشهر قليلة، حتى اغتيل “فودة” برصاصات غادرة استهدفه بها أنصار التيار الإسلامي، في الثامن من حزيران/ يونيو من السنة ذاتها، ولا بد هنا أن نذكر ما لم تذكره مقالة “ميدان” متعامية متقصدة، ففي شهادة الشيخ محمد الغزالي في أثناء محاكمة قاتل فرج فودة، أفتى بجواز أن “يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها. وإن كان هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة” مضيفاً أن القتلة “أدوا الفريضة، لأن فرج فودة قال وكتب ما يخرجه عن دينه ويضعه في حكم المرتد”.
واختُتم هذا المقال بفكرة رئيسة مفادها، أن المفكر “فرج فودة” لم يكن مفكراً حقيقياً، بل صنعته البروباغاندا التي أحاطت به، واعتبر المقال أن طريقة اغتياله أعطته “اسما لم يكن ليبلغه مع ميراثه الفكري، الذي خلا من أي ناتج حقيقي يمكن أن يسند رصيده الرمزي بوصفه أحد أعلام العلمانية، وهي الحادثة التي كانت السبب الرئيس وربما الوحيد لاشتهار فودة، لا بما كتب، بل بالحادثة التي انتهت بها حياته”، بحسب المقال. وبهذه الطريقة انتهى مقال “ميدان” بتسفيه “فودة” المفكر وتقزيمه بشكل صريح ومن دون مواربة، بعكس ما جرت عليه العادة في المنصة وفي المنصات الإعلامية المختلفة التابعة للجزيرة والإخوان المسلمين.
ومنذ أن قرأت هذه المقال منذ شهر تقريباً، وأنا يشغلني سؤال واحد وكبير:
ما هو المفكّر ومتى نطلق على المثقف وصف المفكّر؟ كيف لنا أن نميّز بين مفكر كبير وآخر متواضع؟،
ما الغاية في أن يكون الإنسان مفكراً، هل يوزن المفكر بكمية إنتاجه المعرفي، أم بتأثيره في محيطه وبالمشكلات التي يفكّر فيها، بغض النظر عن إنتاجه من الكتب وغزارة أفكاره؟.
بمعنى آخر كيف أصبح “فودة” لا مفكراً في نظر خصومه، في حين كتبه الصغيرة والبسيطة التي خاطب بها أنصاره التي ما زالت تأخذ مكانها في المكتبات الورقية والإلكترونية الجديدة، بقيت إلى اليوم وبعد 25 سنة من اغتياله، تقض مضجع خصومه القروسطيين وأنصارهم المنتشرين في كل مكان؟، هل من يفعل ذلك متسلحاً بقلمه فقط يُعتبر نكرة على خريطة الفكر؟
الجواب هنا ليس أكاديمياً اختصاصياً بل فكرياً بحتاً، ولأننا لسنا بصدد تقويم إنتاج “فودة” على مقاييس القيمة البحثية العلمية، فلنا أن نقوّم إنتاجه على مقياس الفكرة والتأثير الفكري الذي أحدثته كتبه، وليس غريباً على هذا المقياس، أن يكون أصغر كتب فرج فودة “الحقيقة الغائبة” المؤلف من 150 صفحة من القطع الصغير، هو أكثر كتبه شهرة وتأثيراً الذي أثار غضب أعلام التيار المضاد وجنونهم، على الرغم من أنه -أي فودة- اعتد بكتب أُخرى توسع فيها بشكل أكبر في ردوده على خصومه الإسلاميين.
وفي ضوء المقياس الفكري ذاته، لنا أن نعود إلى عصر النهضة الأوروبية، لنرى أن “إيراسموس” المفكر الهولندي الشهير وأحد عظماء عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، لم يكن يشابه “فودة” فقط في رؤيته وقراءته المستنيرة للدين، وعدائه للمنهجية السكولائية القروسطية للدين والإنسان والفلسفة، وتعرضه لوابل من الاتهامات بالكفر والهرطقة على الرغم من إيمانه الواضح الراسخ، بل يشابهه أكثر في أن أصغر كتبه “ثناء على الجنون” الذي كتبه -لغاية الترفيه عن نفسه كما يقول هو نفسه- في بضعة أسابيع خلال رحلة من إيطاليا إلى إنكلترا عام 1511، هو أشهر الكتب التي أنتجها عصر النهضة على الرغم من صغر حجمه، وما زال الكتاب إلى اليوم وبعد أربعة قرون ونصف، يُطبع ويُباع في المكتبات، في حين أصبحت مؤلفات “إيراسموس” الفكرية والفلسفية الأكثر ضخامة في صنف الكتب الكلاسيكية القديمة التي تجذب الباحثين والفلاسفة الكبار فقط، ولا بد أن نشير هنا إلى أن “ثناء على الجنون” كما “الحقيقة الغائبة”، وضعته الكنيسة على قائمة الكتب المحظورة، وصدر أمر ملكي بمنع تداوله في باريس، وأُحرق مترجمه الفرنسي، واعتُقل أنصار “إيراسموس”، وبقيت الحال كذلك بعد موته وهو موسوم -أي إيراسموس- بالزندقة والكفر، من قبل الكنيسة و”الإخوان المسيحيين”، إلى حين دخول أوروبا في عصر التنوير بعد مئتي سنة تقريبا، العصر الذي أنصف إيراسموس وانتصر له وخلّده بين مفكري أوروبا الكبار.
نحن متى سننتصر لابن رشد والمعري والتوحيدي ونصر حامد أبي زيد وفرج فودة، وبقية مفكرينا المستنيرين الكبار؟، ومتى سندرك كُلنا أننا نُحقن يومياً بالرفض والانغلاق والأدلجة والتعصب، من وسائل إعلامية مؤدلجة تتبع لهذا الطرف أو تلك الجهة، في الوقت الذي نعيش فيه حياتنا في مستنقع من الجمود والجهل والتخلف والدم الحرام.. متى؟
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.