نورا ناطور
الملخص التنفيذي:
لم يكن الحديث “الاسلام يجبّ ما قبله” حديثاً عابراً يمكن تخطيه بل كان تكراراً واستنساخاً لمئات الشخصيات عبر التاريخ؛ امتهنت هذا الحديث وورّثته لمن بعده. أيضاً، كان تزكية وانطلاقة لكل حدث بعد سفك الدماء وازهاق الأرواح؛ فها هو الصحابي خالد ابن الوليد ظلّ اسمه الصحابي الجليل بعدما ارتكب مجزرة في حق قبيلة بني جذيمة فغضب النبي ﷺ منه، وأرسل ديّة القوم مع علي رضي الله عنه؛ ومعه الكثير من المال فدفعها الأخير وبقي بعضه فدفعه لمن ارتعب وخاف وفزع، وحين عاد علي أخبر النبي بما صنع بالمال الزائد قائلاً: دفعتها لروعة القلوب.
ثم قام الصحابي خالد بعد أعوام بقتل المئات من المرتدين بعد النبي بعهد أبي بكر آنذاك؛ وقطع رأس مالك ابن نويرة وقيل طبخ رأسه في قدر! وخاض حروباً كثيرة مع الصحابة من أجل استتباب أمن الدولة وبسط سيطرتها وذلك إعلاءً لراية الاسلام. والسؤال: هل فعلاً الإسلام يجبُّ ما قبله؟ نتناول هذا التساؤل من خلال المحاور التالية:
المحاور:
- المدخل
- محاكاة التاريخ حول العفو!
- استغلال الحدث التاريخي للإرهاب السياسي
- استغلال التاريخ لتجميل صورة الإرهاب!
- الخاتمة
المدخل
سأستهل ورقتي هذه بهذا الحديث الذي جاء على لسان الرسول الكريم محمد ﷺ: “الاسلام يجُبُّ ما قبله”. وسؤالي لكم أعزاءي:
- ما هو الفعل المغتفر فعلاً بعد إعلان التوبة؟
- وهل يسقط الحق الشخصي في حال سقط تنفيذ العقاب عن المُعاقب بعد أن يعلن توبته؟
- وهل التوبة اللفظية كافية ليبدأ الانسان حياة جديدة طبيعية؟ أم أنها تستلزم من المجتمع والدولة والقائمين على تلك التشريعات متابعة التائب وإعادة تهيئته نفسياً وفكرياً وسلوكياً؛ حتى نضمن عدم عودته للجريمة؟
- أخيراً، هل تكفي التوبة في الدنيا لتريح الروح من عذاب الضمير في حال كان هناك ضمير حي عند من ارتكب الجريمة؟
لم أقرأ التاريخ القديم سواء عن العرب أو العجم بشكل معمّق، لكن ما أعرفه جيداً وحفظته وترعرعت عليه هو هذا الحديث الذي ما طبّق حديث بحذافيره على مدار ألف وأربعمائة وستة وأربعين عاماً كما طُبّق هذا الحديث وكأنه نص قرآني مُنزَل!
منذ ما يدعى بفتوحاتنا الاسلامية والعالم العربي عامة والإسلامي خاصة يعاني من بأسنا على غيرنا؛ وبين بعضنا بعضاً؛ كيف كنا من تابعين وأمويين وعباسيين وعثمانيين ومماليك نفتح بلدان العالم بالسيف والدم؟ ثم نلمّع سيوفنا ونضعها نصباً تذكارية في وسط ساحاتها العامة بزهو وتفاخر وتطاوس لا يجرؤ عليه أحد غيرنا! معللين هذا الأمر بأنه لنشر الاسلام في العالم!
طبعاً، لكل عمل مثالبه كما مزاياه وكم اتمنى لو أني أعرف الميزة الفكرية والانسانية من نشر الدين بالسيف والقهر! رغماً عن أنوف أهالي البلدان والمدن على مدار تلك القرون الماضية!!
أردت بهذه المقدمة أن تكون مدخلاً للفكرة التي سأطرحها والتي لا أقصد من خلالها الاتّهام أو التهجّم على أحد، وبالمقابل لا أريد تلميع صورة أحد.
محاكاة التاريخ حول العفو!
لم يكن الحديث “الاسلام يجبّ ما قبله” حديثاً عابراً يمكن تخطيه بل كان تكراراً واستنساخاً لمئات الشخصيات عبر التاريخ؛ امتهنت هذا الحديث وورّثته لمن بعده. أيضاً، كان تزكية وانطلاقة لكل حدث بعد سفك الدماء وازهاق الأرواح؛ فها هو الصحابي خالد ابن الوليد ظلّ اسمه الصحابي الجليل بعدما ارتكب مجزرة في حق قبيلة بني جذيمة فغضب النبي ﷺ منه، وأرسل ديّة القوم مع علي رضي الله عنه؛ ومعه الكثير من المال فدفعها الأخير وبقي بعضه فدفعه لمن ارتعب وخاف وفزع، وحين عاد علي أخبر النبي بما صنع بالمال الزائد قائلاً: دفعتها لروعة القلوب.
ثم قام الصحابي خالد بعد أعوام بقتل المئات من المرتدين بعد النبي بعهد أبي بكر آنذاك؛ وقطع رأس مالك ابن نويرة وقيل طبخ رأسه في قدر! وخاض حروباً كثيرة مع الصحابة من أجل استتباب أمن الدولة وبسط سيطرتها وذلك إعلاءً لراية الاسلام.
ومن منا لم يسمع عن معاوية ابن أبي سفيان الرجل الأموي الأول الذي حقق انتصارات عظيمة، ما كان لغيره أن يحققها لولا قسوة قلبه ورجاحة عقله وحبّه للمال والسلطة والنفوذ، حُكمه الذي تمدد وتوسّع على حساب سفك دماء أهل البلدان التي تمّ فتحها تحت راية الاسلام. ومن منا لم يسمع بمعركة صفّين التي كان فيها القاتل مسلماً والمقتول مسلماً أيضاً والجميع يصرخ الله أكبر!
طبعاً القائمة تطول وأنا لست بصدد ذكر هؤلاء الصحابة، فهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولا أقصد تجريمهم أو وصفهم بالقتلة لا سمح الله، فَذِكر الأحداث هنا فقط للاستدلال وشرح الفكرة من أين أتت، لكن الأهم أن الدلالة توسّعت وحبلت وأنجبت حديثاً يقال إنه معلّق! أي أنه غير مصدّق عليه؛ أو مسند لكن، للأسف هو متداول بين أوساط مجموعة تتّبع لفكر ابن تيمية يأخذون به، ويبرّرون أفعالهم به بحسب ما نقله ابن اسحاق كاتب السيرة النبوية وهو: أن رسول الله ﷺ أرسل اثنين من صحابته لقتل كعب ابن الأشرف لقصيدة شتمه فيها. قام الرجل بواجب الضيافة بحقهما، فما كان منهما غير أن غدرا به وقتلاه ليلاً بعدما أكلا وشربا في بيته! ورغم أن الحديث معلّق غير مسند!! إلا أنه مازال يؤخذ به ويدرّس في الجامعات والمعاهد.
استغلال الحدث التاريخي للإرهاب السياسي
دعوني أقول لكم: أن العبرة من هذه القصة هو قتل وتشريد كل شتّام أو ناقد للنبي! وهي ذريعة خبيثة وخطيرة ابتدعوها في زمن العباسيين لمحاربة خصومهم وقتلهم! إن دعاهم الأمر إلى ذلك، وقد اتخذها كل من أتى من بعدهم ليبرروا القتل وسفك الدماء وقطع الرؤوس وتشريد البشر تحت راية نصرة الاسلام ضدّ كلّ مخالف أو معارض لرئيس أو قائد أو حاكم! وهنا تكمن خطورة الأمر ومدى عمق مصيبتنا وتجذرها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ليس العيب في الاسلام ولا في أحاديثه، لكن اسقاطات بعض الأحاديث أو حتى بعض آيات القرآن، جاءت ضمن سياق زمني معين كان لابد من تطبيق تلك الأحاديث والآيات آنذاك – إن صحّت القصة- ومن ثم ينسخ العمل بها إلى غير رجعة. إلا أن ما حدث ويحدث هو إحياء تلك الآيات المنسوخة، وإنعاش تلك الأحاديث الضعيفة والأخذ بها كنص قدسي يجوز العمل به والاقتداء بتعاليمه.
استغلال التاريخ لتجميل صورة الإرهاب!
إن تجميل صورة الارهابي ليست طارئة على مجتمعنا الاسلامي على وجه التحديد ولا على المجتمعات الغربية، فمن يستطيع أن يبرّئ ما قاما به دبليو جورج بوش في العراق، وأوباما ودونالد ترامب وبشار الأسد وبوتين ورجب طيب أردوغان ورؤساء إيران وغيرهم كثر! هؤلاء الذين دعمتهم حكوماتهم والدول القوية في حربهم بذريعة ما يسمى “محاربة الارهاب” ثم ظهر وتكشّف لنا أنهم هم أنفسهم رعوا الإرهاب؛ ودعموه! وهم من نظّموا ووحدوا صفوفه من أجل مصالحهم الشخصية أولاً ومصالح دولهم ثانياً.
إن حديث الإسلام يجبّ ما قبله؛ كان ولايزال مصدر راحة حقيقية لكل مرتكب جريمة فهو تخريجة شرعية متفق عليها ومأخوذ بها، وتنتفى عنه صفة الارهاب إنْ انتصر الفريق الذي يدعمه ويسانده، فهو قبل النصر كان يدعى إرهابياً وملاحقاً من جميع المنظمات والمحاكم الدولية، لكن حين ينتصر فإن للنصر -كما كان سابقاً في عهد الصحابة والتابعين من بعدهم- وقعاً عظيماً في النفوس، لأن النصر يبيّض السّجلات ويمحي الذنوب، حتى لو كان عدد القتلى مئاتٍ وألوفٍ من أرواح الأبرياء الذين قضوا على أيدي هؤلاء لمجرد مخالفتهم الرأي أو الدين أو الحزب أو المذهب.
يكفيك أن ترفع القرآن وتقتل ويكفيك أن تقول الله أكبر؛ فيحلّ دم من تكبّر عليه! ويكفيك أن تسبي زوجة من خالفك دينك أو مذهبك أو عقيدتك فيصبح ماله وعرضه حلالاً عليك!!
لطالما كنت اتفكّر في موضوع السبي حين كنا طلاباً وطالبات في مدارسنا العامة حول سيرة النبي وصحابته والتابعين من بعده! وكيف كانت تؤخذ السبيّة حتى إن كانت محصّنة، ثم يستباح شرفها لمجرد أنها كانت زوجة كافر أو زوجة عدو لهم دون رادع أخلاقي، بل هناك دافع ديني يجعلهم يستبيحون تلك المرأة دون تفكير!
لكن حين قامت الحرب في وطني وشهدنا جميعاً على هذا العمل الإجرامي من كافة الأطراف سواء من جهة الدولة في أقبية سجونها المخفية والمظلمة، أو في سجون بعض المعارضة المتطرفة التي استباحت النساء – محصنات وغير محصنات – لمجرد وقعن أسيرات بين أيديهم، أدركنا جميعنا ألا يمكن لهذا العمل الشنيع أن يقبله الاسلام الحق؛ اسلام الله لا اسلام البشر، وأنه علينا إنْ كنا مؤمنين حقاً؛ أن نقرأ تاريخنا بأنفسنا بعيداً عن المناهج التي فرضت علينا.
لكن، تكمن المشكلة في أن الطرف الذي كان محسوباً على الدولة لا يبيح هذا الأمر من منطلق ديني فهو يعرف ضمنياً أن هذا الامر منافٍ لحقوق الانسان؛ ومعادٍ للقوانين الدولية الخاصة بحماية المرأة وحقوقها، في حين أن الطرف الآخر أو الجهة التي تتبنى هكذا فكر وفعل وحشي تبيحه من منطلق ديني بحت وهنا يكمن الخطر الحقيقي!
لا أظن الأسلحة الفتاكة أكثر خطورة من حديث مقدّس أو آية بعينها على الانسان وعلى العقل العربي “المؤمن” الذي يبيح قتل أبيه إن خالفه الرأي، أو التبرؤ من أمه إن كانت على دين غير دينه، وفي حال عفّ عن قتلهما وذراهما أحياء فهو بهذا ارتكب معصية قد يُحاسب عليها عند الله!
ليست الخطورة في الموت قتلاً! إنما الموت الحقيقي هو العيش بجوار من يحملون هذا الفكر الموقوت الذي ينتظر اللحظة المواتية لينفجر ويسفك الدماء الزكية بغير حق.
الخاتمة
تؤسفني مشاهد القتل اليومي في غزّة، لكن صدقاً وبدون مبالغة إن مشاهد القتل في وطني أشد وقعاً على نفسي ورؤية الدماء والجثث فيه تندى له جبين الانسانية، فالقتل على يد العدو الغاصب لذيذاً وله بعداً نفسياً عميقاً رغم كرهي للغة القتل التي ينتهجها الاسرائيليون منذ وصولهم لهذه الأرض المقدّسة؛ وهم لا يعفّون أو يتوارون عن قتل أحد بدم بارد وحاقد، لكنه يبقى عدوّاً وكل عداوة لها أسبابها. لكن، ما يحدث في وطني منذ اندلاع الحرب الى يومنا هذا ما هو إلا تكرار لسيناريو الموت ولكن بنغمة جديدة البارحة كان المبرّر للقتل هو الارهاب وأهله، واليوم فلول النظام وأعوانه.
تعدّد القتلة والموتى نحن من كل الطوائف والأعراق والقوميات، ومن لم يُقتل البارحة فلا بُدّ سيحاسب اليوم أو غداً على عدم موته مع الجماعة آنذاك وكأنها فاتورة يجب أن يدفعها الجميع شاءوا أم أبوا!
أعود وأكرر أنا لا أجرّم الصحابة الكرام؛ فهم أمة خلت لها مالها وعليها ما عليها. لكن، هل يستطيع أحدكم أن ينكر هذا الكلام، فإن كان نعم. فليتفضل ويشرح لي ماهي مبررات القتل، وعلى ماذا اعتمد ويعتمد القتلة المتطرفون في قتل أبناء وطني؟ لكن، لا يحاولنَّ أحدكم تزيين أو تنميق أو تبرير الموقف، فالقتل فعل مريع؛ حتى إن كان المقتول ابليس اللعين!