خطوة تخدم مصالح الجزائر وامنها مقابل تغذية مخاوف موريتانيا
أكدت مصادر أمنية جزائرية مطلعة ان الاتفاق العسكري الذي عقدته الجزائر مع القيادة العسكرية الامريكية لافريقيا كان حاسما في إنهاء وجود مجموعات فاغنر الروسية في مالي. وقد أعلنت تلك الجماعات العسكرية نهاية الأسبوع المنقضي أنها استكملت عملياتها بنجاح.
وفي هذا الإطار أكَّد الخبير الجزائري المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية والذي يدير موقع «ميناديفانس» أكرم خريف أن قرار المجموعة الروسية ينطوي على جملة من الفرضيات، بما فيها تقاطع المصالح الجزائرية مع روسيا في المنطقة، وقد يكون خطوة من موسكو لفرض حالة من الانضباط على ذراعها العسكرية في مالي، بشكل لا يزعج شريكا إستراتيجيا لها في شمال أفريقيا، وهو ما لم تستطع فرضه على مجموعة فاغنر التي نقلت عملها الميداني خلال الأشهر الأخيرة إلى المسافة صفر مع الجزائر..
اتفاق عسكري بين الجزائر وأمريكا
ويذهب المحلل أكرم خريف إلى أن الاتفاق العسكري السري المبرم بين الجزائر والولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية، لا يستبعد أن يكون قد تضمن خطة للمواجهة أو الحيلولة دون تمدد النفوذ الروسي في منطقة الساحل، وهو ما تكون قد تلقفته موسكو، عبر إعادة ترتيب الأوراق بشكل يبدّد مخاوف الجزائر على أمنها ودورها الطبيعي في المنطقة.
ويبدو أن الشكوك التي حامت حول أداء مقاتلي المجموعة، بعد سقوط أعداد منهم، وتسجيل حالات عدم انسجام في العديد من العمليات العسكرية، بحسب تقارير محلية، فضلا عن اتهامها بارتكاب مجازر في حق المدنيين، قد اضطرت القيادة السياسية في موسكو، إلى سحب فاغنر من جبهة مالي، على أن يتم استخلافها بـ”الفيلق الأفريقي”، الواقع تحت الوصاية المباشرة لوزارة الدفاع الروسية.
من جهتها، ترى واشنطن في الجزائر شريكاً محورياً لمواجهة تنامي النفوذ الروسي، والحد من تقارب بعض الأنظمة العسكرية في الساحل مع موسكو، وهذا من أبرز أهداف الاتفاق من جانب أميركي.
وأعرب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن دعمه للاتفاق، مؤكداً أن توقيعه «لا يتعارض مع علاقات الجزائر الاستراتيجية الأخرى، خاصة مع روسيا، بل يدخل في إطار تنويع الشراكات، بما يخدم مصالح الجزائر وأمنها».
التضييق على فاغنر
وحسب محللين سياسيين متابعين للوضع في شمال افريقيا، فإن الاتفاق العسكري ينطوي على مسعى رئيسي، يتمثل في التضييق على عناصر «فاغنر» عبر عمليات توفر الحماية لتنظيمات «أزواد» المالية المعارضة، المتمركزة في شمال مالي، والتي شنَّ «فاغنر» هجمات ضدها في 2024، بناءً على تحالفه مع السلطة العسكرية في باماكو، بقيادة العقيد عاصيمي غويتا. وقد أثمر هذا التعاون سيطرة كاملة على كيدال في عملية عسكرية تمت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد أن ظلَّت المدينة لسنوات أحد المعاقل الرئيسية لجماعات المعارضة الطرقية.
ويمكن إدراج مسعى حماية المعارضة المسلحة ضمن حادثة إسقاط سلاح الجو الجزائري طائرة مسيَّرة مالية في فاتح خلال أبريل (نيسان) 2025 بالمنطقة الحدودية، في حين كانت في مهمة تعقّب تحركات «أزواد». وتسببت هذه الحادثة في أزمة حادة بين الجزائر وباماكو، التي وصفتها بـ«إعلان حرب».
وفي خطوة دبلوماسية لافتة تخص «قضية فاغنر»، فتحت الجزائر رسمياً ملف وجود المجموعة عند حدودها الجنوبية، خلال اجتماع بين وزير خارجيتها أحمد عطاف ونظيره الروسي سيرغي لافروف، في 20 فبراير (شباط) المناسبة في جوهانسبورغ، على هامش الاجتماع الوزاري لـ«مجموعة الـ20».
وكان عطاف قد صرح-خلال مؤتمر صحافي في الجزائر، بعد هذا الاجتماع- أن بلاده بلَّغت الجانب الروسي «قلقها» من نشاط «فاغنر» في المنطقة، خصوصاً في أراضي الجارين مالي والنيجر.
هزيمة فاغنر قي افريقيا
ويُقدم الخبير أكرم خريف أسباباً أخرى تفسر، من وجهة نظره، قرار انسحاب «فاغنر» من مالي، بقوله: «في 25 يوليو (تموز) 2024، شنّ الجيش المالي مع الميليشيات الروسية هجوماً على بلدة تينزواتين قرب الحدود الجزائرية، لكنه واجه مقاومة عنيفة من قوات (أزواد)، ثم هاجمه تنظيم (نصرة الإسلام والمسلمين) (الموالي لتنظيم «القاعدة») في اليوم التالي، ما أسفر عن خسائر فادحة تمثلت في مقتل 84 من (فاغنر) و47 جندياً مالياً، وتدمير معدات عسكرية بينها مروحية. وعُدّت هذه المعركة أسوأ هزيمة لـ(فاغنر) في أفريقيا».
وأضاف الخبير موضحاً: «بعد فشل هذا الهجوم، شنّ تحالف (فاغنر) والجيش المالي محاولة جديدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، لكن الجزائر تدخلت بحزم، عبر رصد دقيق بري وجوي وحتى فضائي للعملية العسكرية، وأبلغت موسكو رفضها التام للتصعيد».
وقد اضطرت قيادة الحملة العسكرية إلى التراجع دون إطلاق رصاصة واحدة، حسب خريف، الذي أشار إلى «هزيمة سياسية ومعنوية جديدة لمجموعات (فاغنر)»، مبرزاً أن الجزائر «نجحت عبر تحرك دبلوماسي منسق، وضغط ميداني محسوب، في إنهاء وجود الميليشيات على حدودها الجنوبية، وهي خطوة حاسمة لإعادة التوازن إلى الساحل
وتابع الخبير نفسه قائلاً: «في 6 من يونيو (حزيران) الحالي، أعلنت (فاغنر) رسمياً عبر قناتها على منصة (تلغرام) انتهاء مهمتها في مالي. وبذلك تخسر الشركة عقدها المربح مع المجلس العسكري المالي، وامتيازاتها في منجم الذهب نتاهاكا»، وهو أكبر موقع لاستخراج الذهب الحرفي في شمال مالي هيمن عليه أفراد «فاغنر» في فبراير 2024.
صمت مالي
ولم تصدر الحكومة المالية أيّ بيان رسمي حتى الآن بشأن إعلان انسحاب فاغنر رغم تزامنه مع وضع أمني متوتر جراء هجمات جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، المتواجدة على تخوم العاصمة باماكو، ودخلت في اتصالات مع أعيان القبائل المحايدين أو الموالين للجيش المالي، من أجل تسليم أسلحتهم مع ضمان الحماية لهم.
ويعود أول تواجد للمجموعة المنسحبة في مالي إلى العام 2022، بموجب اتفاق أبرم بين المجلس العسكري الحاكم في البلاد وبين قيادتها، ورغم مقتل رئيسها يفغيني بريغوجين، العام 2023، في حادث طائرة غامض بقيت المجموعة في مالي تقود مخطط الحرب على الفصائل الأزوادية المسلحة، واستعادة مدن الشمال إلى سيطرة الحكومة المركزية، خاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية، وفريق “المينوسما” الأممي.
ويبدو أن موسكو لا تريد التفريط في نفوذها المتزايد في مالي ومنطقة الساحل عموما، حيث لم تمض إلا ساعات قليلة بعد إعلان مجموعة فاغنر الانسحاب من مالي، حتى أعلن “فيلق أفريقيا” الروسي استمراره في مالي.
ونقلت تقارير إعلامية دولية عن “الفيلق الأفريقي” عبر قناته على تليغرام، أن “مغادرة فاغنر لن تحدث أي تغييرات، وأن وحدات هذا الفيلق ستبقى في مالي، وأن روسيا لا تتراجع، وعلى العكس من ذلك فإنها تواصل دعمها لباماكو الآن على نحو أكثر جوهرية”.
ويعتمد الفيلق الأفريقي، الذي تم الإعلان عنه مطلع العام 2024 في تركيبته على حوالي 70 إلى 80 في المئة من مقاتلين سابقين في فاغنر. ويتوزع الفيلق الذي يشرف على إدارته نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال يونس بك إيفكوروف، بين 5 بلدان أفريقية هي ليبيا، والنيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتحتضن ليبيا مقره المركزي، وتتراوح قواته بين 40 و45 ألف عنصر، وبدأت عمليات التجنيد لصالحه في ديسمبر 2023 في عدد من الدول الأفريقية وروسيا.
وتؤكد هذه المعطيات وجود رغبة من روسيا في ترتيب أوراقها وأذرعها العسكرية وإضفاء المزيد من التنظيم والإستراتيجية في المحور الذي تؤسس له في أفريقيا، وهي مهمة ليس في مقدور مجموعة مسلحة الاضطلاع بها.
موريتانيا متمسكة بالحياد لكنها متخوفة
وعلى الجهة المقابلة وفي خضم هذا التحول، تبرز موريتانيا جارة مالي الملتصقة كدولة تتابع المشهد بقلق بالغ، مدركةً أن تفاقم الأزمة في مالي لم يعد شأناً داخليًا ماليا صرفًا، بل بات عامل تهديد مباشر على أمنها واستقرارها الحدودي.
وقد برزت موريتانيا كنموذج فريد في إدارة العلاقة مع الأزمات الإقليمية، إذ اعتمد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاربة تقوم على الحياد الإيجابي والتمسك الصارم بالقرار السيادي.
وقد رفض الغزواني، وفقًا لمصدر موال له، الانجرار إلى محاور دولية متقلبة، وتجنب الزج بالمؤسسة العسكرية في حرب لا تخدم المصالح الوطنية، مكتفيًا بتأمين الحدود ودعم المدنيين المتضررين إنسانيًا ولوجستيًا.
وقد مكن هذا التوازن بين الحكمة والجاهزية نظام نواكشوط من المحافظة على الاستقرار في محيط مضطرب، مقدمة بذلك تجربة مغايرة لعسكرة الحلول أو الارتهان للفاعلين الدوليين.
لكن موريتانيا، التي تمسكت منذ البداية بمبدأ الحياد وعدم الزج بجيشها في نزاعات الجوار، تقرأ المشهد من زاوية مختلفة: التدهور الأمني المتسارع في مالي قد ينسف سياسة التوازن التي تنتهجها نواكشوط منذ سنوات.
وفي منطقة لا ترحم المترددين، تدرك موريتانيا أن حدودها مع مالي قد تتحول من مجرد خط جغرافي إلى خط تماس أمني في أية لحظة. فبين فوضى الجماعات المسلحة، وتموضع روسي جديد، وصراع نفوذ دولي يتكثف يوماً بعد يوم، يبقى القلق الموريتاني ليس فقط مبررًا، بل سيبقى إنذارًا مبكرًا لبقية المنطقة.
اللاعبين المؤثرين في الشأن المالي
وتجدر الاشارة الى أن الوضع في مالي معقد بطبيعته، ويصعب اختزاله في طرفين أو ثلاثة، فالصراع متعدد المستويات ويتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي.
ومن أبرز اللاعبين في الشأن المالي الحركات الأزوادية ذات النزعة القومية المطالبة بالاستقلال، وهي حركات ليست كلها متطرفة كما يروج لها خصومها، وإن دخل بعضها في تحالفات ظرفية مع تنظيمات متشددة.
ومن اللاعبين المؤثرين في المشهد المالي، الجماعات الجهادية: مثل «المرابطون» و» القاعدة في المغرب الإسلامي» و»داعش»، وحركة «ماسينا»، إلى جانب «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التي تمثل أبرز مظلة موحدة لهذه التنظيمات.
أما الجيش المالي فهو لاعب آخر في الساحة لكنه يعاني من ضعف ميداني واضح ونقص في المهنية والعقيدة القتالية، فضلاً عن اتهامات بانتهاكات ضد سكان الشمال من العرب والطوارق.
ومن اللاعبين أيضًا الحركات الموالية للجيش وهي، حسب التحريات، أكثر بطشًا وعنصرية، وتُتهم بارتكاب جرائم ضد مكونات سكانية بعينها.
أما القوى الدولية المنحشرة في الشأن المالي فأبرزها فرنسا المنبوذة من النظام المالي الحالي، وروسيا عبر «فاغنر»، وتركيا عبر الطائرات المسيرة والمستشارين، وأحيانًا ألمانيا وأمريكا.
ومن اللاعبين المهربون وتجار السلاح والمخدرات، وهم فاعلون غير تقليديين لكنهم يتحكمون في مفاصل كثيرة من الحياة الاقتصادية والأمنية.
أما الخاسرون المحتملون فهم تركيا التي فقدت رهانها العسكري، والمغرب الذي قد يُقصى من ترتيبات ما بعد فاغنر، بينما تحتل موريتانيا مقعد الطرف الصامت القلق الذي يتبنى سياسة «الانتظار الحذر»، مع أنها تمتلك أدوات نفوذ ناعم مؤثرة في مالي كالروابط الدينية والقبلية.