تُعَدّ إسرائيل وإيران اليوم من ألدّ الخصوم في الشرق الأوسط، حيث تتّسم علاقتهما بعداء حاد يتجلى في الخطابات النارية، والصراعات بالوكالة، ووضع أمني متوتر له تداعيات عالمية. غير أن هذا الصراع المتجذر لم يكن دائمًا على هذا النحو؛ ففي المراحل الأولى من العلاقة بين الدولتين، حافظتا على شراكة براغماتية مبنية على مصالح استراتيجية مشتركة. ولم يحدث الانفصال الدراماتيكي إلا مع الثورة الإسلامية عام 1979، حين دخلت العلاقة مرحلة طويلة من المواجهة التي باتت تتخذ أبعادًا عالمية متزايدة.
أولًا: البدايات – تحالف خفي بين دول هامشية (1948–1979)
بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 وترسيخ نظام الشاه في طهران، تطورت علاقة وثيقة ولكن سرية بين بلدين اعتبرا نفسيهما معزولين جيوسياسيًا. كانت إسرائيل تواجه مقاطعة ومعارضة واسعة من العالم العربي، فيما تموضعَت إيران بقيادة محمد رضا بهلوي كقوة إقليمية علمانية خارج الإطار العربي. شعر البلدان بتهديد مشترك من صعود القومية العربية، خاصة في ظل قيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وكان أحد العناصر المركزية في هذه الشراكة ما يُعرف بـ”عقيدة الأطراف”، التي روّج لها حزب ماباي الحاكم في إسرائيل آنذاك ورئيس الوزراء دافيد بن غوريون. هدفت هذه الاستراتيجية إلى إقامة تحالفات مع دول غير عربية تقع على أطراف العالم العربي، مثل تركيا، وإثيوبيا، وإيران. وأفضى هذا النهج إلى ما سُمّي بـ”تحالف الأطراف”، الذي حافظت إسرائيل من خلاله على علاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية مع هذه الدول.
على مدار عقود، زوّدت إيران إسرائيل بجزء كبير من احتياجاتها من النفط الخام، غالبًا عبر قنوات تجارة سرية. وفي المقابل، قدّمت إسرائيل خبرتها التكنولوجية، خاصة في مجالات الزراعة وإدارة المياه والشؤون العسكرية. كما شهدت العلاقة تعاونًا مكثفًا بين جهاز “الموساد” الإسرائيلي وجهاز “السافاك” الإيراني، حيث عمل الجهازان عن كثب في مراقبة الجماعات المعارضة وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات العربية.
وقد تمّ الحفاظ على هذا التعاون بشكل غير رسمي عن قصد، حيث لم تعترف إيران رسميًا بإسرائيل، إلا أن العلاقة خلف الكواليس كانت ذات أهمية استراتيجية. حتى إن إسرائيل كانت تحتفظ ببعثة دبلوماسية دائمة في طهران ذات طابع شبه سفارة.
ثانيًا: القطيعة الكبرى – الثورة الإسلامية (1979)
جلبت الثورة الإسلامية تغيّرًا جذريًا في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط. فقد أُطيح بالشاه، وأقام النظام الجديد بقيادة آية الله روح الله الخميني حكومة دينية تعارض بشكل صريح الغرب وإسرائيل على حدّ سواء. ومنذ ذلك الحين، باتت الدولة اليهودية تُوصَف بـ”الكيان الصهيوني” و”الشيطان الأصغر” – تعبير يضعها أيديولوجيًا في مصاف الولايات المتحدة، “الشيطان الأكبر”.
وصوّرت الجمهورية الإسلامية نفسها كمدافع عن المستضعفين وحامية للقضية الفلسطينية. وضمن هذا السرد، باتت إسرائيل تُقدَّم كقوة استعمارية تضطهد الفلسطينيين، ودولة غير شرعية يجب القضاء عليها. وفي السنوات التي تلت الثورة مباشرة، بدأت طهران في دعم مجموعات فلسطينية مختلفة، من بينها حركة “حماس” الإسلامية المتشددة، التي تدعو علنًا إلى تدمير إسرائيل.
ومع ذلك، لم تكن القطيعة خالية من التناقضات. ففي ذروة الحرب الإيرانية–العراقية (1980–1988)، زوّدت إسرائيل إيران سرًا بأسلحة، لا سيما خلال ما عُرف بفضيحة “إيران–كونترا”. وتُظهر هذه الحادثة المتناقضة كيف أن الخصوم الأيديولوجيين قد يتخذون قرارات براغماتية في ظروف استثنائية – خاصة عند مواجهة عدو مشترك، مثل العراق بقيادة صدام حسين.
ثالثًا: التصعيد والصراعات بالوكالة (من التسعينيات حتى 2020)
منذ تسعينيات القرن الماضي، أصبحت العداوة بين إسرائيل وإيران مصدرًا دائمًا للتوتر الجيوسياسي. فقد وسّعت إيران تدريجيًا تحالفاتها مع أطراف قريبة من حدود إسرائيل. ولعل أبرز هذه العلاقات هو تحالفها الوثيق مع “حزب الله” اللبناني، الذي أصبح له تأثير واسع في لبنان منذ انسحاب إسرائيل من جنوب البلاد عام 2000. ويتلقى حزب الله دعمًا ماليًا وعسكريًا ولوجستيًا من طهران، ويُعَدّ عنصرًا أساسيًا في ما يُسمّى بـ”محور المقاومة”، الذي يضم أيضًا النظام السوري وميليشيات شيعية في العراق.
وشكّل البرنامج النووي الإيراني نقطة تحوّل محورية. فإسرائيل ترى في احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي تهديدًا وجوديًا. ومنذ أوائل الألفية الثالثة، انتهجت إسرائيل استراتيجية وقائية نشطة، شملت هجمات سيبرانية، أبرزها فيروس “ستاكسنت” الشهير الذي عطّل أجزاء من البنية التحتية النووية الإيرانية، إضافة إلى اغتيالات استهدفت علماء إيرانيين، وغالبًا ما نُسبت إلى جهاز الموساد.
في الوقت ذاته، عززت إسرائيل وجودها العسكري في المنطقة، وشنّت غارات جوية منتظمة على مواقع إيرانية في سوريا. من جهتها، استغلّت طهران الحرب الأهلية السورية لنشر قواتها وميليشياتها الحليفة قرب الحدود الإسرائيلية. كما أن دعم إيران للحوثيين في اليمن – الذين كثّفوا هجماتهم بالطائرات المسيّرة ضد أهداف إسرائيلية – يدخل ضمن هذه الاستراتيجية الأوسع نطاقًا.
رابعًا: الوضع الراهن – عداء دون حرب شاملة؟
رغم التوترات الهائلة والتصعيدات المتكررة، لا تزال إسرائيل وإيران تتجنبان حتى الآن الانزلاق إلى حرب شاملة. وبدلاً من ذلك، يخوض الطرفان ما يُعرف بـ”الحرب في الظل”، التي تمتد عبر عدة دول وتطال بشكل متزايد البنى التحتية المدنية والساحات الدبلوماسية.
وقد بلغ التصعيد ذروته خلال الحرب في غزة (2023/2024)، حيث وصلت المواجهة إلى مستوى غير مسبوق: فللمرة الأولى، شنّت وحدات عسكرية إيرانية هجمات مباشرة على الأراضي الإسرائيلية، بما في ذلك هجوم بطائرات مسيّرة وصواريخ في أبريل 2024. وردّت إسرائيل بضربة جوية دقيقة داخل الأراضي الإيرانية – ما شكّل كسرًا لتابو طويل في منطق التصعيد القائم.