عندما توفي ياسر عرفات في مستشفى عسكري بباريس في 11 نوفمبر 2004، لم تستغرق اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية سوى سبع ساعات لتعيين خلفٍ له: محمود عباس. كان عباس حينها يبلغ من العمر 68 عامًا، وتولّى مسؤولية جسيمة، إذ لم يصبح فقط رئيسًا للمنظمة، بل تولّى لاحقًا رئاسة السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح الحاكمة. واليوم، بعد أكثر من عقدين، يبلغ عباس 89 عامًا، وأصبح السؤال حول من سيخلفه أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
لكن من غير المرجح أن يحدث انتقال سلس كالذي أعقب وفاة عرفات هذه المرة. فعباس هو آخر من يمثل الجيل المؤسّس لحركة فتح، التي كانت يومًا ما في طليعة المقاومة الفلسطينية، وتهيمن منذ ذلك الحين على الحياة السياسية في الأراضي المحتلة. وعلى عكس عرفات، لم يُعِد عباس خليفةً سياسيًّا له، ولم يسمِ أحدًا لخلافته. بل على العكس، تجنّب بشكل منهجي السماح لأي منافس محتمل بأن يراكم الكثير من النفوذ—وهو نهج يعتبره بعض المراقبين إستراتيجية متعمّدة للحفاظ على قبضته على السلطة.
في رام الله، يسود ترقّب مشوب بالقلق. فكلما اقترب عهد عباس من نهايته—سواءً بالاستقالة أو المرض أو الوفاة—اشتدّت التكهنات حول خلافته. شيء واحد واضح: إذا تنحّى عباس فجأة، فإنّ فراغًا خطيرًا في السلطة قد ينشأ. فالهياكل السياسية والمؤسسية مجزّأة، ولا يوجد آلية واضحة لانتقال منظم. ونتيجةً لذلك، يسعى عدد متزايد من الأطراف إلى إعادة التموضع.
من بين هؤلاء حسين الشيخ، الذي عيّنه عباس بشكل مفاجئ في مايو 2024 نائبًا لرئيس منظمة التحرير—وهي وظيفة لم يكن لها وجود من قبل. وقد رأى كثيرون في هذا التعيين إشارة واضحة: الشيخ قد يكون المرشّح المفضّل للرئيس. فبصفته أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، وشخصية محورية في إدارة العلاقات الأمنية والإدارية مع إسرائيل، يتمتّع الشيخ البالغ من العمر 64 عامًا بنفوذ ملحوظ.
لكن رغم قوّته الرسمية، يفتقر الشيخ إلى دعم شعبي واسع بين الفلسطينيين. إذ يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره ممثلًا للوضع القائم يُنظَر إليه كثيرًا على أنه فاسد واستبدادي ومنفصل عن الواقع المعاش في غزة والضفة الغربية. وخصوصًا في أوساط الشباب الفلسطيني، لا يُنظر إليه كرمزٍ للأمل، بل كرمزٍ للجمود السياسي. حتى داخل حركة فتح، فإنّ موقعه بعيد عن أن يكون مضمونًا. فقد يكون تعيينه كنائب لرئيس المنظمة خطوة إستراتيجية—لكنها ليست حاسمة.
ثمة شخصيات بارزة أخرى تُطرح أسماؤها كخلفاء محتملين، مثل محمد دحلان، القائد الأمني السابق المنفي في غزة، ومروان البرغوثي، القيادي الفتحاوي الكاريزمي المسجون في إسرائيل منذ عام 2002. يتمتّع كلاهما بشعبية كبيرة، لكنّ ترشيحهما يواجه عقبات كبرى: فدحلان شخصية مثيرة للجدل داخل فتح ومرفوض شخصيًّا من قبل عباس، في حين أنّ سجن البرغوثي الطويل يحدّ كثيرًا من قدرته على التحرك السياسي.
وهناك مرشح محتمل آخر هو رئيس الوزراء محمد اشتية، الذي قد تؤهّله علاقاته الوثيقة مع عباس وخبرته الدبلوماسية وصورته التكنوقراطية ليكون شخصية انتقالية—لكن من غير الواضح ما إذا كان بإمكانه الصمود أمام الصراعات الداخلية على السلطة على المدى الطويل.
تكشف مسألة الخلافة عن خلل بنيوي في الحكم الفلسطيني: إذ يتمحور النظام حول شخص واحد—عباس—بدلًا من أن يقوم على الاستقرار المؤسسي أو اتخاذ القرار الجماعي. فبعد أن كانت منظمة التحرير مظلةً تضم فصائل متعددة، أصبحت إلى حدٍّ بعيد مرادفة لحركة فتح. أما السلطة الفلسطينية، فتُعاني من أزمة شرعية هائلة، فاقمها غياب الانتخابات في السنوات الأخيرة.
وفي حال خرج عباس من المشهد بشكل مفاجئ، فقد يكون هناك صراع محموم على السلطة بنتائج لا يمكن التنبؤ بها. إذ إنّ مستقبل فتح، وأداء المؤسسات الفلسطينية، داخليًّا ودوليًّا، على المحك. إسرائيل، والدول الإقليمية مثل مصر والأردن وقطر، فضلًا عن الولايات المتحدة، تتابع التطورات بقلق متزايد.
ينبع هذا القلق من الخصوصية التي تميّز السياسة الفلسطينية. فالفلسطينيون يعيشون جزئيًّا في الشتات وجزئيًّا في وطن يخضع بدرجات متفاوتة للسيطرة الإسرائيلية. ولا تزال تطلعاتهم نحو الاستقلال غير محققة—رغم أنّ ما يقرب من 150 دولة اعترفت بدولة فلسطين المعلنة عام 1988. ومع مرور الوقت، نشأت شبكة مؤسساتية معقّدة تتعايش وتتداخل أحيانًا.
وصف أحد أساتذة القانون الدستوري في نابلس هذا الوضع بـ”مشكلة الأجسام الثلاثة” في السياسة الفلسطينية. وتشير “الأجسام الثلاثة” إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، ودولة فلسطين.
تأسّست منظمة التحرير عام 1964 كمظلة تضم أحزابًا وتيارات متعددة، وهي معترف بها دوليًّا كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وهي التي وقّعت على اتفاقيات أوسلو مع إسرائيل. وأدّى ذلك المسار إلى إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، التي تُدير أجزاء من الضفة الغربية، وكانت تُدير قطاع غزة حتى سيطرة حماس عليه عام 2007.
ورغم أنّ الكثير من الفلسطينيين يرون السلطة عاجزة أمام الاحتلال الإسرائيلي، فقد اكتسبت وزنًا تدريجيًّا، ولو من باب كونها كيانًا حكوميًّا شبه فعّال يتمتّع بموارد مالية كبيرة. نظريًّا، تخضع السلطة لبرلمان وقيادة منتخبة. أما عمليًّا، فإنّ الانقسام الداخلي منذ 2007 شلّ معظم هذه الآليات.
وفي الواقع، تتركّز كل السلطات في يد محمود عباس. فهو رئيس حركة فتح، ورئيس منظمة التحرير، ورئيس السلطة الفلسطينية—ومنذ عام 2005، يحمل أيضًا لقب رئيس دولة فلسطين. ومنذ 2013، وبعد حصول فلسطين على صفة “دولة مراقب” في الأمم المتحدة، بدأت السلطة تُشير إلى نفسها أيضًا باسم “دولة فلسطين”. لكنّ دولة فلسطين من الناحية الفنية ليست مرتبطة بالسلطة، بل بمنظمة التحرير، التي أعلنت قيامها عام 1988.
أثارت هذه التداخلات المؤسسية الكثير من الارتباك، خاصةً في أواخر أبريل، عندما أنشأ المجلس المركزي للمنظمة—بناءً على اقتراح من عباس—منصب نائب رئيس المنظمة. وتفاقم الالتباس عندما نصّ البيان الرسمي على أنّ هذا النائب سيكون أيضًا نائب رئيس دولة فلسطين. وتداولت بعض التقارير لاحقًا مزاعم بأنّ حسين الشيخ سيصبح نائبًا لرئيس السلطة، أو حتى أنه سيخلف عباس تلقائيًّا عند وفاته أو استقالته.
لكن هذه الخطوة لم تكن خطة خلافة—بل كانت مناورة سياسية. فعباس والمنظمة والسلطة يواجهون ضغوطًا متزايدة من دول الخليج، التي بدأت تشترط دعمها للقيادة الراسخة والمُتَّهمة بالفساد في رام الله بإجراء إصلاحات ملموسة. ويُقال إنّ تعيين نائب لعباس كان مطلبًا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وكانت أول تهنئة للشيخ قد جاءت من الرياض، ومن المتوقع أن يسافر إلى السعودية قريبًا. لكنّ الشيخ لا يزال غير محبوب بين الفلسطينيين، وحتى داخل منظمة التحرير، فإنّ قاعدته ضعيفة. ويبدو أنّ عباس يسير على حبل مشدود بين مراكز القوى في فتح والمنظمة من جهة، ومطالب الإصلاح القادمة من السعودية ودول الخليج الأخرى من جهة أخرى. لقد منح الشيخ لقبًا—لكن دون سلطة حقيقية.
رغم ترقيته الأخيرة، لا يُعتبر حسين الشيخ خلفًا مُعيَّنًا رسميًّا لعباس. ففي حال وفاة الرئيس، لن يرث الشيخ تلقائيًّا أيًّا من مناصبه. حتى داخل منظمة التحرير، التي تعزّز نفوذه فيها، لا توجد قاعدة تضمن انتقال القيادة إليه.
وكما حدث بعد وفاة عرفات عام 2004، سيتعيّن على اللجنة التنفيذية للمنظمة الاجتماع لتعيين رئيس جديد. وبحسب القانون القائم، يجب أن يُنتخب رئيس السلطة الفلسطينية من خلال انتخابات عامة—وهو سيناريو يبدو بعيدًا، نظرًا لعدم إجراء أي انتخابات منذ عام 2006. وحتى داخل حركة فتح، التي يقودها عباس أيضًا، ستكون هناك حاجة إلى مؤتمر خاص لاتخاذ قرار بشأن الخلافة. بعبارة أخرى: لا أحد من المناصب الثلاثة المركزية التي يتولاها عباس حاليًّا مرتبط بنائب معيّن.
الشيخ لاعب قوي في المشهد السياسي الفلسطيني—بفضل قربه من عباس، ودوره كحلقة وصل مع إسرائيل، وسيطرته على الموارد المالية والإدارية للسلطة. لكنه ليس المرشح الوحيد المحتمل. إذ يُطرح اسم ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، كمرشح بارز. فرج معروف بأنه وسيط قوي ذو طابع سري، وله علاقات قوية مع أجهزة استخبارات غربية، وسمعة طيبة داخل المؤسسة الأمنية.
أحد السيناريوهات المتصورة—والمرجّحة على نحو متزايد—هو تقسيم السلطات التي تراكمت في يد عباس بعد وفاته. فبدلًا من أن يخلفه شخص واحد في جميع المناصب، قد تتوزع قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وفتح، ولو مؤقتًا، على أفراد مختلفين. نظريًّا، قد يفتح هذا التفكيك المؤسسي الباب أمام أشكال قيادة جماعية. أما عمليًّا، فقد يؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في نظام سياسي هشّ أصلًا.
يصف المراقبون هذا الوضع بـ”مشكلة الأجسام الثلاثة” في السياسة الفلسطينية: ثلاث مؤسسات مركزية ذات صلاحيات متداخلة، لكن دون تراتبية واضحة أو آليات خلافة محدّدة. وما كان يُفترض أن يكون تقسيمًا للعمل، قد يتحوّل في حقبة ما بعد عباس إلى صراع مفتوح على السلطة—بين فصائل متنافسة، وولاءات قديمة، وتحالفات جديدة. وبدون شخصية موحدة مثل عباس، قد تنفجر الخصومات التي كُبِتَت طويلًا.
مثل هذا الصراع على السلطة لن يكون تحديًا داخليًّا فقط، بل سيستدرج أيضًا أطرافًا إقليميين ودوليين—من إسرائيل ومصر والأردن إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ففراغ القيادة في قمة النظام السياسي الفلسطيني لن يكون مجرد فجوة مؤسسية، بل خطر إستراتيجي ذو تداعيات فورية على الاستقرار في الضفة الغربية وخارجها.