غولينِه جانانبور – بروكسل
يختار إيمانويل ماكرون كلماته بعناية—بحذرٍ، وتحفُّظ، ومليئةٌ بصيغ الشرط. عدا ذلك سيبدو متهورًا في ظل الوضع المتفجر في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي أثناء عودته من مصر تُعدُّ لافتةً للنظر: دفعة دبلوماسية جديدة للمساعدة في تهدئة المنطقة، تقودها رغبة في أن يكون أكثر من مجرد مراقب.
في مقابلة على قناة (فرانس 5)، بُثَّت بعد زيارته لمخيم لاجئين فلسطينيين قرب غزة، صرّح ماكرون بأن هدف فرنسا هو إطلاق “دينامية جماعية” لإعطاء زخم جديد للصراع الذي امتد لعقود. قال بوضوح: “علينا أن نتحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطينية، وسنتخذ خطوات في هذا الاتجاه خلال الأشهر المقبلة”. وأضاف بأنه يعتقد أن الوقت قد حان “لسلوك هذا الطريق”.
جملةٌ تبدو دبلوماسية، لكنها بعيدة المدى—وخاصة في المناخ السياسي الحالي. من الواضح أن ماكرون قد لمس وترًا حساسًا، كما أظهرت ردود الفعل الواسعة في العالم العربي، والتي تراوحت بين تفاؤل حذر وتحفظ مشوب بالشك. بهذه الخطوة، يُعيد الرئيس الفرنسي إحياء أدوار قديمة باهتة: فرنسا كوسيط، وكقوة ذات وزن تاريخي في المنطقة.
لكن ماكرون لم يكتفِ بإعادة التأكيد على حل الدولتين. بل أضاف، تقريبًا في ذات السياق، أن من يطالبون بالاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يعترفوا أيضًا بحق إسرائيل في الوجود—”وكثيرٌ منهم لا يفعل ذلك”. وكان يقصد بذلك إيران، دون أن يسميها. لقد كانت محاولة للموازنة: دعم الطموحات الفلسطينية، ولكن ليس على حساب أمن إسرائيل.
من ثمّ، فإن مبادرة ماكرون تظل حذرةً مشروطةً في لغتها—عرضٌ دبلوماسي مليءٌ بالتحفظات. ومع ذلك، فإن الوزن الرمزي والاتجاه واضحان: فرنسا تريد أن تعود إلى طاولة الفعل، لا أن تظل متفرجة.
يبقى الكثير في مبادرة ماكرون السياسيّة مجرد افتراضات واحتمالات. فاختياره لعبارة “خلال الأشهر المقبلة” يترك الباب مفتوحًا للتراجع. الموعد غير الرسمي هو يونيو، حين يُتوقع أن ترأس فرنسا والسعودية مؤتمرًا حول الشرق الأوسط في الأمم المتحدة بنيويورك.
يبدو أن ماكرون تحرّكه رغبة في كسر الدينامية التي أطلقها التحالف بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب. فبدعم واشنطن، يواصل رئيس وزراء إسرائيل السير في مسار عسكري متشدد. أما ترامب، فقد طرح فكرة طرد الفلسطينيين من غزة لبناء ما يشبه “ريفييرا” متوسطية—مشروع عقاري ضخم. وأكد ماكرون أنه تحدّث مع كل من نتنياهو وترامب بشأن مبادرته—لكنه لم يكشف عن فحوى تلك المحادثات. فهل يبالغ الرئيس الفرنسي في تقدير تأثيره؟
ليس مفاجئًا أن تلقى مبادرة ماكرون اهتمامًا في القاهرة. ففي مصر، التقى بالرئيس عبد الفتاح السيسي، وكذلك بملك الأردن عبد الله الثاني—وهما زعيمان لدولتين تحدّان إسرائيل، وتعدان من أكثر المتأثرين بمصير الفلسطينيين. فكلاهما يرى في فشل مشروع الدولة الفلسطينية، واحتمال تهجير جماعي جديد للفلسطينيين، كابوسًا حقيقيًا.
وقد ردّت مصر على رؤية ترامب الخيالية لما يُسمّى “الريفييرا العربية”—والتي تنطوي ضمنًا على تهجير قسري—بمقترح خاص بها: “خطة إعادة إعمار عربية”. وهدفها الأساسي هو إحياء حلم الدولة الفلسطينية المندثر. الفكرة تدور حول إعادة السلطة الفلسطينية (التي مقرها الضفة الغربية) إلى الساحة—لتأخذ مكان حركة حماس الإسلامية المصنفة إرهابية في غزة. ما إذا كان ذلك واقعيًا أو ممكنًا يبقى أمرًا مشكوكًا فيه بشدة.
ومع ذلك، فإن القيادة في أي مبادرة دبلوماسية عربية ستؤول على الأرجح إلى السعودية. وهو ما تعكسه مبادرة ماكرون: فالمملكة ترى نفسها قائدةً للعرب والمسلمين معًا. ورغم علاقاتها المستقرة نسبيًا اليوم مع إسرائيل، إلا أن الرياض لا تزال بلا سفارة هناك ولا معاهدة سلام مع الدولة اليهودية. وكانت السعودية قد لعبت دورًا محوريًا في صياغة مبادرة السلام العربية عام 2002، التي عرضت التطبيع مقابل حل الدولتين. لكنها لم تلقَ استجابة.
وقد أعيد طرح المبادرة مرارًا خلال السنوات، وشروطها واضحة: دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، والعودة إلى حدود عام 1967، وحل عادل لقضية اللاجئين. وهي مطالب من المستبعد أن تقبل بها الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية. بل على العكس: فمنذ مجزرة حماس في 7 أكتوبر 2023، قامت إسرائيل بكل ما في وسعها لجعل حتى مظاهر الحل العادل على أساس الدولتين أمرًا غير قابل للتحقيق.
ففي عهد بنيامين نتنياهو، فقدت إسرائيل فعليًا أي اهتمام بحل الدولتين. ويتضح ذلك في دفعها المتزايد للاستيلاء على مزيد من الأراضي—ليس في الضفة الغربية فقط، بل ويبدو في غزة أيضًا. إضافة إلى ذلك، تبقى قضايا رئيسية مرتبطة بأي دولة فلسطينية مستقبلية غير مقبولة تمامًا بالنسبة لإسرائيل. في مقدمتها: حق عودة نحو ستة ملايين لاجئ فلسطيني. فهذا، بالنسبة لإسرائيل التي يبلغ عدد سكانها قرابة 10 ملايين—من بينهم نحو مليوني عربي إسرائيلي—يُعد تهديدًا ديموغرافيًا وسياسيًا لا يمكن تحمُّله.
وهذا ما يُلقي بظلال من الشك على مدى واقعية حصول مبادرة ماكرون على زخم فعلي. وهناك أيضًا سؤال حول مدى استعداد السعودية لتقاسم القيادة مع فرنسا—القوة الاستعمارية السابقة—في حل النزاع المركزي في الشرق الأوسط. صحيح أن باريس تمتلك مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، لكن إرثها الاستعماري، وتدخلاتها المستمرة في الشؤون العربية الداخلية (كما في لبنان)، لا تزال تثير الشكوك.
أما الموقف الرسمي لألمانيا، فهو يتعارض مع نوع المبادرة الأوروبية-العربية التي يبدو أن ماكرون يتخيلها—مبادرة من شأنها فعليًا تجاوز النهج الأميركي في دبلوماسية الشرق الأوسط. فبرلين تُصرّ على أن حل الدولتين يجب أن يأتي عبر مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا موقفها حتى مع كون سياسة الاستيطان الإسرائيلية قد خلقت وقائع على الأرض تجعل مثل تلك المفاوضات شبه مستحيلة.
إذا ما أقدم ماكرون فعليًا على الخطوة التالية، فستكون بمثابة محطة فارقة في الدبلوماسية: ففرنسا—عضو مجموعة السبع، وقوة نووية، وعضو دائم في مجلس الأمن—ستصبح أول دولة غربية كبرى تعترف رسميًا بدولة فلسطين. وستكون خطوة رمزية كبيرة، تُظهر رغبة فرنسا في التحرر من ظل واشنطن وتوجيه رسالة قوية إلى العالم العربي. وحتى اليوم، اعترفت 148 دولة بفلسطين، بما في ذلك غالبية دول الجنوب العالمي.
عندما اقتربت إسبانيا، وإيرلندا، والنرويج، وآيسلندا من الاعتراف العام الماضي، تعرض ماكرون لانتقادات متزايدة—خصوصًا من اليسار الأوروبي—بسبب تردده. ومنذ هجمات حماس الإرهابية في 7 أكتوبر 2023، يتهمه منتقدوه بعدم وجود موقف متّسق في الشرق الأوسط: أحيانًا مؤيد بقوة لإسرائيل، ثم ينتقل إلى إيماءات تقارب تجاه الدول العربية.
أما داخليًا، فالوضع أكثر حساسية. إذ تحتضن فرنسا أكبر جالية يهودية وأكبر جالية مسلمة في أوروبا. وما يجري في غزة أو تل أبيب لا يظهر فقط في الأخبار—بل ينعكس مباشرة على المناخ الاجتماعي داخل البلاد. كل تصعيد في الشرق الأوسط، وكل خطاب محتدم، يرتد على الشارع الفرنسي في شكل احتجاجات ونقاشات وتوترات متزايدة أحيانًا. فبالنسبة لماكرون، لا تقتصر سياسة الشرق الأوسط على كونها شأنًا خارجيًا—بل هي حقل ألغام داخلي أيضًا.
وبناءً عليه، جاءت ردود الفعل على مبادرته منقسمة بحدة. فقد رحّب بها اليسار السياسي—من الحزب الاشتراكي إلى حركة “فرنسا الأبيّة” بقيادة جان لوك ميلونشون—تقريبًا بالإجماع، وهم الذين دعوا منذ زمن طويل إلى موقف أكثر وضوحًا دعمًا للدولة الفلسطينية. أما اليمين المتطرف، بقيادة حزب “التجمّع الوطني” لمارين لوبان، فقد اتّهم ماكرون بالانحياز لحماس وخيانة إسرائيل. ويطالبونه بأن “يقف أخيرًا من أجل أمن الغرب”.
وهكذا، حتى قبل أي اعتراف رسمي بفلسطين، أشعلت بادرة ماكرون الدبلوماسية عاصفة داخلية. والنقاش لم يبدأ بعد فعليًا—لكنه يُعد بأن يكون ذا أثر حاسم، داخليًا كما على الساحة الدولية.