أحمد الرمح
من أهم المشاكل التي عصفت بالمجتمع السوري خلال الثورة ثقافة الطائفية وسلوكها الإلغائي تجاه الآخر، ولا يمكننا ممارسة دور النعامة لنقول: إن الخطاب الطائفي وُلِدَ مع اندلاع الثورة. فهذا ليس صحيحًا؛ ولكن هذا الخطاب تفاقم بعد أن تحولت الثورة إلى حالة متعسكرة، وصلت إلى حد الحرب الأهلية ــ كما في توصيف الأمم المتحدة ــ فكان الخطاب الطائفي من كل الأطراف المتصارعة نوعًا من أنواع الدعوة للتكوُّر الطائفي؛ لكون كل فريق ادعى أنه سيُسْتَأصل صفريًا من قبل الطرف الآخر، فنجح الخطاب الطائفي عند ثلة لا بأس بها من الأطراف كافة؛ ليعلو صوت الطائفية عند غالبية الأطراف المتصارعة؛ وليتكون سلوك طائفي وصل حتى التوحش؛ ساهمت الأشرطة المصورة في تعذيب الثائرين بطريقة طائفية؛ سربها النظام عن عمد لتأجيج الطائفية.
ولأننا ندعو لتشكيل سوريا المستقبل؛ كبلد المواطنة عنوانها؛ والإنسانية سلوكها؛ والعدالة والمساواة ميزان تقيِّمها الوطني؛ لا بد من خارطة طريق للخروج من نفق الطائفية؛ لإيماننا بقدرة السوري على تجاوز نفق الطائفية؛ ولكن هذا يحتاج إلى عمل دؤوب تقوم به النخب المثقفة؛ لترسم خارطة نحو وطن المواطنة؛ فيعمل سياسيو الوطن على تحويلها إلى استراتيجية عمل من خلال قوانين تُسَنُّ؛ حتى يطمئن كل مكون؛ ويهجر تخوفه من الآخر، ليعيش الجميع بسلام وأمان متجاوزين ثقافة الطائفية وسلوكها.
خطوات لا بد منها للخلاص من الطائفية!
هناك عدة خطوات لابد منها؛ لعل صانع القرار في سوريا المستقبل؛ يعمل إلى تحويلها كسياسة للمجتمع؛ واستراتيجية يجب تحقيقها؛ وهي:
أولًا: الإنسانية!
إننا نعاني من خواء إنساني! ساعد كثيرًا الخطابَ والسلوكَ الطائفي بالتمدد اجتماعيًا، ودفع بعضهم للخوض في وحل الثقافة الطائفية؛ تمثل بالاعتقاد أننا أفضل من الآخرين؛ لتغدو كل طائفة؛ تعتقد أنها الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. فإذا بقينا متمسكين بالثقافة الطائفية؛ كلنا خاسرون. فإنسانية الإنسان تأتي قبل بناء كل شيء، والتنمية تبدأ بالإنسان وللإنسان ومن أجله. وغياب البعد الإنساني فينا تجاه الآخر؛ وَلّد سلوكات غير وطنية فيما بيننا.
يتحدث المفكر “المهدي المنجرة” عن أسس بناء النهضة فيقول: “عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه. ولكن! خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه! بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب. لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس”!
ثانيًا: الانتقال من الجماعة إلى المجتمع!
رغم أن الدول الحديثة قطعت شوطًا طويلًا في انتقالها من الجماعات إلى المجتمع؛ بعد أن تعلمت من الدرس؛ ولكن يبدو أننا لم نتعظ من دروس التاريخ ولا عِبر الأمم الأخرى، فها هي أوروبا التي يموت أبناؤنا في قوارب الموت من أجل الوصول إليها؛ ليعيشوا بأمان؛ لم تصل إلى ما هي عليه من تطور وتقدم ونهضة إلا بعد أن وعت أنّ الإنسانية سبيل النهضة؛ وأنّ المجتمع أهم من الجماعة. فأطول معركة في التاريخ كانت المعارك الطائفية في أوروبا، فحرب الثلاثين عامًا؛ قامت في ألمانيا بسبب صراع طائفي بين الكاثوليك والبروتستانت! حتى جاءت اتفاقية “ويستڤاليا” فأرست نظامًا جديدًا يقوم على المجتمع لا على الجماعة الطائفية أو العرقية.
إنّ التطور الحقيقي إنسانيًا واجتماعيًا هو الانتقال من الجماعة إلى المجتمع؛ أي الانتقال من الولاء والبراء الطائفي؛ إلى الولاء والبراء الإنساني والمواطِني، وبهذا تتشكل الدولة الحديثة، فالمجتمع فيها؛ مرجعه الدستور، وشرعته القانون المنبثق عنه، ولا شيء يعلو على دستورها وقانونها، ومن يقدم طائفته على ذلك؛ فهو ما يزال يمارس ثقافة الجماعة؛ ويرفض ثقافة المجتمع.
ثالثًا: ثقافة المجتمع المدني ومؤسساته
نحتاج للإيمان بثقافة المجتمع المدني ومؤسساته؛ لأنها قادرة بشكل كبير على دمج أبناء الطوائف في ورشات عمل مختلفة؛ يهجرون فيها ولاءهم الطائفي باتجاه ولاء وطني/إنساني. فثقافة المجتمع المدني قادرة أن تُذيب الفوارق والمشاحنات الطائفية؛ إنْ وُضِعت مناهج حديثة ذات سياسة إنسانية مواطِنِية.
لقد راقب “الكسيس توكفيل” المجتمع الأمريكي أثناء الحرب الأهلية؛ فوجد أن الهموم المعاشية ومستقبل الأطفال؛ وتأسيس مجتمعات مدنية بعيدًا عن الحرب وولاءات كل تجمع عرقي أو ديني هو السبيل؛ فنشأت فكرة المجتمع المدني؛ وأسست لمجتمع أمريكي؛ استطاع فيما بعد أن يكون أرض الأحلام للآخرين، وأرّخ كل ذلك في كتابه “الديمقراطية في أمريكا”. نشره عام ١٨٣٥؛ حيث وصف الأمريكيين وهم يتجمعون لإنشاء مؤسسات مجتمع مدني تحفظ هوية بلادهم الأصلية، وسجل إعجابه بهذا النوع من العمل المدني؛ ودعا الديمقراطية الأوروبية الوليدة لتتعلم قواعد هذا العلم؛ ومنه نشأت فكرة المجتمع المدني.
ولابد ونحن نتحدث عن مؤسسات المجتمع المدني أنْ نطالب بإدراج المؤسسات الدينية؛ ضمن صلاحياته؛ وتكون غير تابعة للنظام الحاكم، حتى لا يستخدمها طائفيًا في صراعاته السياسية من جهة؛ كما تفعل أنظمة الاستبداد في شرقنا البائس، وبالتالي تتكون مؤسسة دينية من المراجع الدينية المختلفة لكل الطوائف؛ تعمل على نبذ السلوك الطائفي؛ لتجرَّمه السلطة التشريعية بعقوبات صارمة، وتتوقف نغمة التكفير والتفسيق والهرطقة من طائفة ضد طائفة أخرى، فالخلق كلهم عيال الله؛ أقرب إليه أنفعهم لعيالهم.
الوصية الرابعة: لا امتياز لمكوّن على آخر!
الدولة الحديثة لا تكون هويتها دينية ولا طائفية، وإنما تتجلى بسمات تميزها عن سواها، لينتمي المواطنون كلهم إليها، معتزين بها، ولها محددات كالموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والعملة المشتركة، والعَلَم، ومواطنوها كلهم لهم الحقوق ذاتها، وعليهم الواجبات عينها، مما يجعلهم خاضعين لقانونها العام؛ ومدافعين عن أرضها، وإذا لم يتحقق ما تقدم؛ ستنهار الوحدة الوطنية، لنغدو شعوبًا لا شعبًا واحدًا. وهذا لا يلغي بأن لكل جماعة هوية توضح خصائصها التاريخية والاجتماعية والدينية فتعبر عنهم؛ ولكن إنْ كانت الدولة مؤلف شعبها من مكونات متعددة؛ وهويتها ترمز لمكون واحد من المكونات كلها؛ لتميزه دستوريًا على الآخرين، هنا تصبح هوية المكون حالة استعلائية على الآخرين، وبالتالي ستتهافت كل مقولات المواطنة؛ ويضعف الانتماء الوطني، وهذه عقبة تعرقل تحقيق المشروع الوطني، واستقرار الدولة.
خامسًا: الإيمان بتيار النقاط البيضاء؟
إن خلافاتنا الطائفية؛ لو أعملنا فيها مبضع البحث والتشريح التاريخي؛ سنجد أنها خلافات حول السلطة؛ استطاع الخبثاء أن يجعلوا لها أصولًا دينية؛ ليجمعوا حولهم حاملًا اجتماعيًا؛ يدعمهم باسم الانتماء الطائفي؛ فيصلوا إلى السلطة.
ويبدو أنّ التعصب الطائفي تجاه الآخر المختلف عنهم في تدينهم، أكبر عقبة أمامنا في بناء دولة المواطنة. ولابد من الإيمان بفكرة تيار النقاط البيضاء، وهذه الفكرة التي نؤمن بها كتيار تنويري تقوم على الاعتقاد أنه لا يوجد مذهب ديني أو طائفة ما، تمتلك الصواب المطلق. وبالوقت نفسه لا نعتقد أن هناك مذهبًا دينيًا أو طائفة ما على خطئ مطلق، إنما هناك نقاط بيضاء عند هذا المكون أو ذاك؛ تكثر أو تقل عند المذاهب والفرق كلها، لو جمعها الحكماء الوطنيون الغيورون على سورية؛ فإنها ستؤسس تيار النقاط البيضاء، علنا نخرج من هذا الجُب التناحري المستمر منذ أكثر من ألف سنة.
سادسًا: منهج تربوي حديث؟
إن المأساة التي يمر بها الشعب السوري؛ والتناحر الطائفي القبيح؛ وفشل نظام الاستبداد في مناحي المجتمع كله؛ كما فشلت المعارضة الرسمية في ذلك أيضًا؛ يؤكد أن المسألة أبعد من أن تغيير النظام السياسي وحده حلٌ لمأساتنا؛ إنما هناك فشل تربوي عميق اجتماعيًا؛ فالتربية الأسرية والمدرسية والحزبية وحتى الدينية؛ كانت تربية فاشلة؛ بل ساهمت بالاحتراب الطائفي! لتؤكد أننا بحاجة لمنهج تربوي حداثي؛ يقوم على أسس علمية وطنية وإنسانية؛ يرأب الصدع الطائفي؛ فثقافة الطائفية ولدت خواءًا إنسانيًا، يحتاج إلى منهج تربوي يقوم على الأخلاق والفضيلة، لتنشئ عليها الأجيال القادمة، فتكون خالية من “فايروسات” الطائفية وجراثيمها السلوكية.
سابعًا: اللاهوت السوري؟
أثناء الاستعمار الغربي لأمريكا اللاتينية، اختلف اليساريون والمتدينون حول من يقوم بمهمة التحرير، حتى مدّ الاستعمار رجليه في بلادهم، فكان هناك راهب حكيم اقترح على الطرفين اللاهوت التحريري قائلاً: نتوحد على تحرير الوطن اولاً من الاستعمار، ونبنيه بالمحبة والإنسانية، بدلاً من الاختلاف والعداوة، توحدوا لتتحرروا. وخاطب المتدينين قائلاً: من لا يعمر جنة الأرض لا يستحق جنة السماء.
إننا قادرون على انتاج لاهوت سوري ينقذ ما تبقى من وطننا؛ فلنتعاون من خلاله للقضاء على الاستبداد مهما كان مصدره سلطويًا أو دينيًا أو طائفيًا؛ ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالقضاء على العنصرية الطائفية، ولنتذكر بأنّ أول عقوبة إلهية كانت على العنصرية! فبعد خلق آدم والطلب الإلهي من المخلوقات أن يكونوا مسخرين له؛ رفض إبليس الانصياع لسبب عنصري قائلًا: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ). فعوقب. فمن يرى نفسه أفضل من الآخرين ففيه من الإبليسية؛ ربما إبليسية عرقية، أو دينية، أو طائفية، أو جنسية. واللاهوت السوري سينتج وثيقة مبادئ؛ لتكون مقدمة لدستور سوريا المستقبل؛ مُؤَسَسَة على أن المواطن السوري مقدس لكونه مواطنًا لا لطائفته ولا لعرقه، ولا تنتهك قدسيته إلا إذا انتهك القانون العام؛ وإننا كلنا سوريون؛ نستطيع أن نعيش متآلفين متحابين إخوة كما عاش أجدادنا بعيدًا عن العفن الطائفي.
أخيرًا:
اخرج أيها السوري من صندوق الطائفية؛ ولا تتبع هواك الطائفي؛ فتخسر إنسانيتك؛ اخرج مما وضعك فيه دعاة الطائفية؛ علنا نبني وطنًا يحترم كل مواطنيه.