نورا ناطور
في بلاد العرب أوطاني؛ عندما تجلس على كرسي السلطة ثم تُمَكّنَ منه؛ تصبح انساناً آخر تكاد أنْ تُنْكِرَ عليك نفسك، فما سر ذلك التغير والنكران المفاجئ للذات؟! رغم أنّ الكرسي؛ لا يتعدّى تعريفه عن كونه مقعد بأربعة قوائم ومسند! يستخدم مؤقتاً!
هذا التعريف البسيط يُطلق على أيّ كرسي في العالم؛ عدا الكراسي الرئاسية والوزارات والمسؤولين العرب؛ وكل كرسي تكون فيه في موقع المسؤول.
والسؤال: بماذا تختلف كراسي المسؤولين عن كراسي رجال الأعمال والناس العاديين في بلادنا العربية؟
لا أظنها تختلف إلا من حيث الغرض منها! فحين يكون الكرسي لمنصب ما؛ لا يحكمه القانون؛ يصبح له شأن آخر ذو قيمة عظيمة، ونفوذ متوحش؛ كلمته نافدة؛ وبالتالي الكرسي بلا قانون؛ هو كرسي مُتحرك الأهواء والرغبات!
وحين ينجو صاحب الكرسي من العقاب؛ يصبح متجرّداً من الأخلاق والقيم العليا والمبادئ الإنسانية التي تنطبق على جميع الناس بلا تمييز أو تفضيل أو تخيير بين أحد؛ ويصبح قانون الغاب سيّد القوانين؛ القوي يأكل الضعيف، والغني يسحق الفقير!
ولطالما أرهقتنا الكراسي حتى ناءت مناكبنا من حملها، وقصم ظهورَنا توحّشُها وغطرستها لعقود طويلة؛ فمنذ خلقنا في هذه الأوطان؛ ونحن نعاني من صَمَمِ وعمى كراسي مسؤولينا، وما بأيدينا خلقنا تعساء! هكذا قالت أم كلثوم في أغنيتها الشهيرة “الأطلال”، فالشعب العربي عامة والسوري خاصة؛ عانينا وما زلنا نعاني من كراسي لمسؤولين عديم الأخلاق لسبب واحد؛ وهو أن القانون مازال مغيباً عن ساحتنا، ومحرّماً على أجنداتنا، فكل مجموعة لها اجندة تريد تنفيذها؛ ومالم يكن الكرسي أخرس وأطرش وأعمى؛ فلا يمكن تحقيقها أبداً.
لهذا بقي القانون غريباً بيننا، وربما إن ولد وكتب له النجاة يوماً ما؛ فقد يعاني الغربة والوحدة معاً، وقد يصيبه داء التوحد كونه سيكون مركوناً على الطاولة جانباً، هذه الطاولة التي تقع إلى جانب الكرسي المُقعد!
كثيرون من أعجبنا كلامهم؛ وصفقنا لهم؛ وانتخبناهم! حتى بلغوا مناصبَ عليا في الدولة، لكن ما هي إلا أياماً أو أسابيعاً معدودة؛ حتى يصبح المسؤول أصماً وأبكماً وأعمى! تزوره في مكتبه، تسائله، تحاوره، تنخز وجدانه بكلمات كان يطرب لسماعها، تستعيد معه وعوده الخلّبية، لكن بلا أمل! تخرج من مكتبه؛ تجر وراءك ذيول الخيبة ومرارة اختيارك الخاطئ لمثل هذا الانسان الانتهازي؛ الذي لا يعرف قيمة من اختاروه لمثل هذا المنصب.
صدقوني ليس العيب في المسؤول ولا في الكرسي، العيب في تغييب القانون؛ حتى بات سماع اسمه أشبه بمعجزة قد تتحقق وقد لا تتحقق. فنحن جميعاً بشر تحكمنا الأهواء والأطماع والأماني والرغبات.
غالبيتنا نملك حساً وطنياً وإرادة جارفة نحو إحداث التغيير والإصلاح؛ لكن حين يصل معظمنا إلى منصب ما؛ يبدأ صراعه مع من هو أعلى منه، ويجد العدالة مثل أخيها القانون غائبة عن سجل المحاسبة والعقاب، وقول كلمة “لا” في وجه من هو أعلى منه منصِباً هو ضرب من الجنون! قد نجني من وراء مواقفنا هذه الحكم على حياتنا بالموت! أو السجن! أو النفي خارج البلاد!
لهذا يجد بعضهم نفسه حيال تلك الصراعات في غنى عن تلك المواجهة؛ ويغدو المنصب مصدر راحة له، فهو ذو سلطة معقولة ونفوذ لا بأس به، ونفس الانسان أمارة بالسوء تغريها المناصب والمال، وبالتالي تجد المرء يبتعد رويداً رويداً عن الغايات التي رسمها، والأهداف التي أراد تحقيقها من أجل أن يرفع من شأن وطنه “طبعاً إلا ما رحم ربي”، ومما لا شك فيه أنّ هناك مجموعة لا بأس بها تريد الإصلاح؛ لكن الضغوط الكثيرة؛ جعلتهم يغادرون مناصبهم بسرعة خوفاً من لوثة السلطة والنفوذ.
إنّ الدول التي يحكمها القانون؛ ولا تحكمها المناصب ولا الشخصيات؛ طالما المسؤول فيه؛ هو خادم للمنصب والشعب وليس العكس، وطالما مدة اشغاله لهذا المنصب مؤقتة لا مؤبدة، فالمناصب الأبدية أعدمت التجديد والتغيير والتقدّم والتطوير، وأحلّت مكانها التخلف والجهل والمحسوبيات والخوف وتكميم الأفواه، وأصبحت معارضة المسؤول؛ أو نقده توضع موضع التخوين والتشكيك بوطنية الناقد! وقد يصل الأمر مع بعضهم حد الاغتيال والتصفية أحياناً!
ولطالما تساءلت، لماذا المعارض والناقد في بلادنا منبوذ ومستبعد عن العملية السياسية؟ لتكون الاجابة: لأنه يعمل على زعزعة الاستقرار! وذلك عبر الاستقواء بالخارج وهذا ما لا يفعله غير الخونة!
إن التخوين والتشكيك بوطنية معارض أو ناقد للانحرافات؛ ليس إلا تبريراً ودعماً للفساد عند أصحاب الكراسي؛ و”شبيحتهم”! لتستمر لعنة الكراسي السلطوية في انحطاط وتخلف البلاد؛ مادام شبيحةُ أصحابِ الكراسي؛ لا يسمحون بنقد ولا بمعارضة لأسيادهم وأولياء نعمهم! ودائماً التبرير والتزوير شمّاعات تخصّصت لتبرير الأخطاء القاتلة لكيان الدولة والمواطن!
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كل استقواء بالخارج خيانة؟
وهل إبقاء الكراسي السلطوية بلا قانون يحكمها؛ حالة وطنية عليا؛ طالما تحفظ هيبة الدولة ومكانتها أمام العالم؟
وهل الكرسي المتفلّت من العقاب؛ يمكن أن تحكمه أخلاق من يجلس عليه، وإلى متى؟ وفي حال كان الجالس خلوقاً ونبيلاً ووطنياً فإلى متى سيصبر؟ ويبقى ثابتاً على ما هو عليه في حال كان كرسيه الوحيد الذي يطبق القانون؛ وجميع الكراسي من حوله “منحرفة” فيها إعاقات لا تشفى؟
ربما عندما ندرك أهمية تطبيق القانون حينها فقط؛ نستطيع الإجابة عن تلكم الأسئلة بصدق وشفافية؛ تجعلنا نتيقن ونؤمن حق الإيمان أن القانون خلق ليكون خلاصنا جميعاً؛ لا ليكون سيفاً مسلطاً على رقاب بعضنا، بينما بعضنا الآخر ينعم بالأمن والراحة والسلام.