عبد القادر موحد
ملخص تنفيذي:
يقدّم هذا البحث قراءة نقدية تحليلية للتقاطع بين مشروع الأمة الديمقراطية كما صاغه عبد الله أوجلان والفكر الإسلامي التحرري المقاصدي، في مواجهة تحديات الحداثة الرأسمالية والدولة القومية. ينطلق من فرضية أن النموذجين، رغم اختلاف مرجعياتهما، يشتركان في رؤية تحررية أخلاقية تضع المجتمع، لا الدولة، في مركز الفعل السياسي والاجتماعي.
يتناول البحث أربعة محاور: الأطر النظرية، نقاط الالتقاء والاختلاف، نقد الحداثة الرأسمالية، واقتراح مشروع عملي تكاملي يجمع بين التنظيم الذاتي والقيم الأخلاقية. ويخلص إلى أهمية الدفاع الذاتي المجتمعي، تفعيل المجالس والشورى، تفكيك علاقة الدين بالدولة، ومواجهة استلاب الإنسان والطبيعة، داعيًا إلى حوار نقدي وتجريبي بين التيارات الإسلامية والتحرر.
المحاور:
- مقدمة
- الفصل الأول: الأطر النظرية للمشروعين الديمقراطي والإسلامي.
- مشروع الأمة الديمقراطية
- نقد الدولة القومية
- مفهوم الأمة الديمقراطية
- الكونفدرالية الديمقراطية كنموذج تنظيمي بديل
- المركزية البيئية في مشروع التحرر
- الملامح العامة للفكر الإسلامي التحرري
- الشورى واللامركزية في تنظيم المجتمعات
- مركزية الإنسان والكرامة
- الأخلاق كمركز للتحرر
- التحرر من السلطة الأبوية والذكورية
- العدالة الاجتماعية كأساس للعيش المشترك
- مركزية الجماعة والفاعلية المجتمعية
- العدالة البيئية كجزء من مشروع التحرر
- اللامركزية ونظام الإدارة الذاتية
- الدفاع الذاتي كمناعة مجتمعية مشتركة
- نقد مشترك للحداثة الرأسمالية
- الدولة القومية: من التجانس إلى العنف
- الاقتصاد الرأسمالي: تفكيك الروابط وتشييء الإنسان
- الفردانية المعزولة في مواجهة الجماعة الأخلاقية
- الدولة الحديثة بين السيادة والأخلاق: وائل حلاق كجسر نقدي
- نحو تكامل نظري ومشروع عملي
- بناء التحالف التحرري: ما بعد الهويات المغلقة
- تحديات التطبيق وأدوات المواجهة
- آليات المواجهة المقترحة
- هيمنة الدولة على المجالين الديني والمجتمعي
- ملخص البحث
مقدمة
في ظل الأزمات المركبة التي تعصف بالعالم المعاصر – من تغيّر مناخي واختلال اقتصادي، إلى تفكك الدولة القومية وتآكل الهويات الجماعية – يتعمق الشعور بالاغتراب الوجودي والانفصال عن الذات والمجتمع والبيئة. لم تعد الدولة القومية قادرة على ضمان العدالة أو الاستقرار، كما لم يعد النظام الرأسمالي الحديث يُنتج المعنى، بل بات يُعمّق نزعة الاستهلاك واللامساواة، ويُضعف الروابط الاجتماعية والروحية التي تُشكّل جوهر الحياة الإنسانية.
في هذا المناخ، تصاعدت تيارات العدمية والعبثية، وتعمّقت النزعة المادية الاستهلاكية، وصار الإنسان يُقاس بقيمته الإنتاجية أو الشرائية، بينما تُقمع الفروقات الثقافية والدينية والبيئية باسم النمو أو التقدم. وبات واضحًا أن الحداثة الرأسمالية، التي وعدت بالتحرر والازدهار، تُنتج العكس: انحدارًا أخلاقيًا، وقطيعةً مع الطبيعة، ونماذج حكم تستنسخ التسلط وإن بوسائل ناعمة.
وسط هذا المشهد، عاد الجدل الفكري يتجدد حول البدائل الممكنة. هل يمكن بناء مشروع تحرري جديد يعيد ربط السياسة بالأخلاق؟ وهل يمكن تخيّل نظام مجتمعي يُوازن بين العدالة والحرية، وبين الفرد والجماعة، وبين الإنسان والبيئة؟
في هذا الإطار، يبرز الفكر الإسلامي التحرري، خاصة في تياراته المقاصدية والفلسفية المعاصرة، كأحد المشاريع التي تسعى إلى استعادة مركزية الإنسان والكرامة والعمران ضمن أفق روحي وأخلاقي.
فقد ساهم مفكرون مثل طه عبد الرحمن ووائل حلاق في بلورة تيار نقدي للحداثة الغربية من داخل منظومة تستند إلى الوحي والعقل والأخلاق معًا، ساعين إلى تقديم بديل حضاري ينطلق من مرجعية إسلامية أصيلة. يرى طه عبد الرحمن أن الحداثة الغربية قامت على عملية “نزع القداسة” عن الإنسان والوجود، حيث جُرِّد الفعل الإنساني من معناه الأخلاقي وربط فقط بالمردودية التقنية والفعالية المادية. وفي كتابه “روح الحداثة “، يؤكد أن الفكر الإسلامي يسعى إلى إرجاع المعنى إلى الفعل الإنساني، عبر إعادة وصله بالأخلاق، بحيث يكون كل فعل مشبعًا بقصد الخير ومسؤولية الآخر. (1)
أما في كتابه “سؤال الأخلاق”، فينتقد طه التصور الحداثي للتحرر، الذي يتمثل في إطلاق العنان للشهوات والانفصال عن الجماعة، ويرى أن التحرر الحقيقي يكمن في ترسيخ البعد الأخلاقي في كل سلوك اجتماعي وسياسي، بحيث يكون الإنسان حرًا بقدر التزامه بالواجب الأخلاقي، لا بقدر تحلله من القيم والضوابط. (2)
وفي نفس الاتجاه، يقدّم وائل حلاق نقدًا جوهريًا للحداثة، لا سيما عبر تحليله لمفهوم الدولة الحديثة، التي يعتبرها “مشروعًا أخلاقيًا فاشلًا” من منظور إسلامي. في كتابه “الدولة المستحيلة”، يوضح حلاق أن الدولة الحديثة رغم ادعائها الحياد وإدارة الشأن العام بموضوعية، مبنية على العنف المؤسسي، والسيطرة البيروقراطية، وتفكيك الروابط الاجتماعية الطبيعية. ويرى أن الشريعة الإسلامية، في مقابل ذلك، كانت تؤسس لحياة اجتماعية ترتكز على المسؤولية الأخلاقية المباشرة، والعلاقات الشخصية المتجذرة في المجتمع، بعيدًا عن العنف المؤسسي الذي تحتكره الدولة الحديثة باسم القانون. (3)
وبذلك، ينتقد حلاق التصور الحداثي للسيادة والقانون باعتبارهما فصلًا قسريًا بين الأخلاق والسياسة، حيث تتحول السلطة إلى جهاز تقني مجرد من القيم، في حين أن النظام الإسلامي التقليدي كان يسعى إلى دمج السياسة بالأخلاق، بحيث تكون الغاية من السلطة تحقيق الرحمة والعدل، لا مجرد تنظيم القوة.
إن المشروعين النقديين لطه عبد الرحمن ووائل حلاق، إذ يتقاطعان في نقد الأسس الفلسفية والأخلاقية للحداثة الغربية، يسعيان في ذات الوقت إلى إعادة بناء تصور حضاري معاصر، تكون فيه الأخلاق في قلب كل فعل إنساني، والسياسة امتدادًا طبيعيا للقيم، لا القطيعةً معها.
في السياق ذاته، يقدّم عبد الله أوجلان أطروحة فكرية بديلة من داخل التجربة الكردية، تقوم على تفكيك الدولة القومية والحداثة الرأسمالية، وطرح مفاهيم مثل “الأمة الديمقراطية”، و”المجتمع الأخلاقي والسياسي”، و”الكونفدرالية الديمقراطية”، وهي مفاهيم تُعلي من التنظيم الذاتي، والتعدد الثقافي، والمشاركة المجتمعية، وترى في المرأة مركز الثورة الاجتماعية بوصفها “ثورة الحياة”. (4)
يرى أوجلان أن “الحرية لا تتحقق عبر الدولة، بل عبر مجتمع أخلاقي قادر على تنظيم ذاته من دون تسلط”.(5)
ورغم ما يبدو من تباعد بين المرجعيتين – الإسلامية ذات الطابع العقدي والروحي، وأطروحة أوجلان ذات الجذور اليسارية والأنارشية – إلا أن قراءة معمقة لمفاهيم الأمة الديمقراطية والمجتمع الإسلامي تكشف عن تقاطعات غير متوقعة، لا سيما فيما يتعلق بتصور الإنسان، والمجتمع، والتنظيم، والعدالة، والبيئة، ودور المرأة.
من هنا، يسعى هذا البحث إلى ما هو أكثر من مجرد رصد للتقاطع، بل إلى اقتراح تكامل نظري ومشروع عملي، يستند إلى إمكانات التلاقي، لا إلى حسابات التنافر. ويتساءل: هل يمكن لمشروع جامع يجمع بين المقاصد الإسلامية ومنظومة القيم التحررية، وبين التنظيم الذاتي والمجالس المجتمعية، أن يُعيد بناء الأمل في مستقبل بديل؟
تنطلق فرضية هذا البحث من أن اللقاء بين الفكرين – إذا تم على أرضية نقدية وإنسانية – يمكن أن يُنتج مشروعًا تحرريًا جديدًا يتجاوز الانقسام التقليدي بين الشر ق والغرب، أو بين الديني والعلماني، ويؤسس لأفق أخلاقي-سياسي بديل، يُعيد للإنسان قيمته، وللجماعة معناها، وللطبيعة كرامتها.
الفصل الأول: الأطر النظرية للمشروعين الديمقراطي والإسلامي.
الملامح العامة لفكر عبد الله أوجلان: نحو سوسيولوجيا الحرية
يتوزع فكر أوجلان في مرحلة السجن على عدد من المحاور الكبرى التي تشكل أساس رؤيته لما يسميه بـ”سوسيولوجيا الحرية”، ويمكن تلخيص هذه الملامح في البنود التالية:
نقد الدولة القومية
- يرفض أوجلان الدولة القومية باعتبارها شكلاً من الاستعمار الداخلي وهيمنة ثقافية تفرض هوية واحدة وتقصي التعدد.
- الدولة القومية تُنتج العنف من خلال سيطرتها المركزية ومحوها للهويات المحلية.
مفهوم الأمة الديمقراطية
- بديل الدولة القومية هو “الأمة الديمقراطية”، وهي إطار تعددي، لامركزي، طوعي يضم مختلف الهويات القومية والدينية والإثنية.
- هذا المفهوم يُعيد تعريف الفعل السياسي باعتباره تنظيمًا أفقيًا تشاركيًا، حيث تُمارس المجتمعات سلطتها من خلال المجالس المحلية والكومينات، لا عبر الدولة أو النخبة.
- يتقاطع مع أفكار ما بعد القومية لدى مفكرين مثل بنديكت أندرسون وطارق علي.
تحرير المرأة كجوهر للتحرر الاجتماعي
- يعتبر أن النظام الأبوي هو أول نظام سلطوي، وبدون تفكيكه لا يمكن لأي تحرر أن يكون حقيقيًا.
- تحرر المرأة ليس قضية فرعية بل هو مركز مشروع الأمة الديمقراطية. (6)
الدفاع الذاتي كحق وواجب جماعي:
يؤكد أوجلان أن الدفاع الذاتي لا يعني فقط السلاح، بل يشمل:
- الدفاع الثقافي ضد الإبادة الرمزية واللغوية.
- الدفاع السياسي عبر التنظيم الذاتي والمجالس.
- الدفاع الاجتماعي ضد التفكك والتغريب.
- الد فاع البيئي ضد الاستغلال الرأسمالي للطبيعة.
- الدفاع الذاتي هو حق طبيعي ومشروع، يعبر عن رفض الخضوع، وهو شكل من أشكال “الحرية المنظمة”.
هذا المفهوم يقترب من أطروحات فرانز فانون حول العنف كاستعادة للذات، لكنه عند أوجلان يأخذ بُعدًا مجتمعيًا مستدامًا. (7)
الكونفدرالية الديمقراطية كنموذج تنظيمي بديل:
- هي صيغة لا سلطوية للتنظيم السياسي والاجتماعي، تعتمد على المجالس المحلية والكومينات، وليس على الدولة البيروقراطية.
- التنظيم الأفقي يتيح مشاركة الجميع في اتخاذ القرار، ويُجنب المركزية والاستبداد.
- يتقاطع مع فلسفة موراي بوكتشين حول “البلدية التحررية”.
المركزية البيئية في مشروع التحرر:
- ينتقد أوجلان الرأسمالية بوصفها مشروعًا لإبادة الطبيعة، ويرى أن العلاقة مع البيئة يجب أن تكون تشاركية لا استغلالية.
- يُشدد على أن المجتمعات الديمقراطية يجب أن تُبنى على أساس الاستدامة، الزراعة البيئية، والعدالة المناخية.
- هذه الرؤية البيئية تضعه إلى جانب مفكرين بيئيين راديكاليين مثل بوكتشين وناعومي كلاين.
الملامح العامة للفكر الإسلامي التحرري
ينبع الفكر الإسلامي التحرري من الوحي الإسلامي (القرآن والسنة)، لكنه لا يكتفي بالقراءة التقليدية، بل يعيد تأويل النصوص في ضوء مقاصد الشريعة وسياقات الإنسان المعاصر، مستندًا إلى مفاهيم أساسية مثل العدل، الكرامة، الحرية، العمران، والتكافل. يمكن تلخيص أبرز ملامحه في النقاط التالية:
نقد القومية وتأكيد البُعد الأممي للأمة:
- يرى الفكر الإسلامي أن الأمة ليست كيانًا عرقيًا أو قوميًّا، بل رابطة روحية وأخلاقية تستوعب التعدد الثقافي والديني. (8)
- هذا التصور يتأسس على قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13).
العدالة الاجتماعية كمرتكز أصيل من جوهر الرسالة الإسلامية، ويتجلى ذلك في:
- الزكاة كآلية توزيع ثروات.
- تحريم الربا كأداة لمحاربة الاستغلال المالي.
- الوقف والتكافل كأدوات للبناء المجتمعي. (9)
الشورى واللامركزية في تنظيم المجتمعات
- الشورى في الإسلام ليست مجرد قيمة رمزية، بل تصور شامل لممارسة السلطة عبر التشاور الجماعي واتخاذ القرار من داخل الجماعة. ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)﴾ (الشورى: 38).
- النموذج الإسلامي التقليدي لم يعرف الدولة المركزية الحديثة، بل اعتمد على مجتمعات تُنظم ذاتها عبر مؤسسات محلية مثل الفقهاء والمجالس الأهلية.
- بحسب وائل حلاق (الدولة المستحيلة): الشريعة الإسلامية نُفذت تاريخيًا من خلال شبكات لامركزية من الفاعلين المجتمعيين، لا من خلال سلطة دولتية واحدة.
- الشورى كمفهوم يؤسّس لنموذج إسلامي تحرري ولامركزي، يقابل الدولة القومية ويُعيد الاعتبار للمجتمع كفاعل تنظيمي وأخلاقي.
(10)
مركزية الإنسان والكرامة
- يضع الإسلام كرامة الإنسان وفاعليته الأخلاقية في قلب المشروع الإلهي؛ فالإنسان خليفة في الأرض، مسؤول عن إعمارها وتحقيق الخير.
- هذه النظرة تمنح الإنسان موقعًا مركزيًا كفاعل حر ومسؤول، لا تابع لسلطة قهرية. (11)
الدفاع الذاتي: في الفكر الإسلامي يفهم ك:
- دفاع عن الدين والعِرض والمجتمع.
- مقاومة الظلم والاستعباد بأدوات روحية ومدنية.
- الدعوة إلى مقاومة الفساد بـ”كلمة حق عند سلطان جائر”.
- الدفاع هنا يُرتبط بـ”الجهاد المدني” و”الأمر بالمعروف”، لا كعنف بل كواجب أخلاقي تحرّري. (12)
رؤية كونية للبيئة والعمران
- تؤكد النصوص الإسلامية على أمانة الإنسان في الأرض، وضرورة عدم الإفساد فيها:
- (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). (الأعراف: 56).
- التنمية في الإسلام ليست مادية فقط، بل عمرانية – روحية – أخلاقية.
- يحضر هنا مفهوم “الخلافة في الأرض” كمسؤولية بيئية واقتصادية في آنٍ.(13)
من خلال هذا العرض المبدئي، يظهر أن كلًا من فكر عبد الله أوجلان والفكر الإسلامي التحرري يشتركان في جوهر تحرري يدعو إلى مجتمع أخلاقي، تعددي، مقاوم للهيمنة القومية والرأسمالية.
غير إن منطلقاتهما مختلفة:
- أوجلان ينطلق من تحليل تاريخ السلطة والأبوة كنظام قمعي متراكم.
- الإسلام ينطلق من رؤية إلهية للإنسان كمخلوق مكرَّم ومكلَّف بالخلافة.
ومن هذا الاختلاف في المنطلق، تبدأ إمكانات الحوار والتكامل، كما سيُعرض في الفصول القادمة.
الفصل الثاني: التقاطعات المفاهيمية والاجتماعية بين النموذجين
تمهيد
على الرغم من اختلاف المرجعيات الفكرية والعقدية بين نموذج الأمة الديمقراطية كما طرحه عبد الله أوجلان، ونموذج المجتمع الإسلامي التحرري كما يتبلور في تيارات مقاصدية وحداثية داخل الفكر الإسلامي، فإن هناك نقاط تقاطع لافتة بينهما. هذه التقاطعات ليست شكلية أو سطحية، بل تمس جوهر المشروعين: في رؤيتهما للإنسان، للمجتمع، للسلطة، وللعلاقة بين الإنسان والطبيعة. هذا الفصل يسعى إلى استكشاف هذه التقاطعات من خلال سبعة محاور، تبيّن كيف يمكن لفكرَين مختلفين أن يتحاورا ويتكاملا في وجه الحداثة الرأسمالية ومركزيتها القامعة.
الأخلاق كمركز للتحرر
يتفق النموذجان في جعل الأخلاق نقطة انطلاق للمشروع التحرري. فعبد الله أوجلان لا ينظر إلى الأخلاق كمنظومة وعظية أو دينية صرفه، بل كجوهر للفاعلية السياسية والاجتماعية. المجتمع، في نظره، لا يكون حراً إلا إذا كان “مجتمعاً أخلاقياً وسياسياً”، أي أنه يمتلك معايير داخلية يوجه بها سلوكه، دون الحاجة إلى سلطة قسرية مفروضة من الخارج.
في المقابل، ينطلق الفكر الإسلامي التحرري من مركزية الأخلاق كمقصد قرآني شامل، فالرسول الكريم أعلن ” انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. (14)
لكن الأخلاق هنا ليست مجرد خصال فردية، بل بنية قيمية تتحكم في نظم الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، والسياسة، والبيئة. وهكذا، فكما أن أوجلان يهاجم الرأسمالية بوصفها تدميراً للمجتمع الأخلاقي، فإن الفكر الإسلامي يرى أن الربا، والاستغلال، والتسلط، كلها مظاهر لفقدان البعد الأخلاقي في العمران الإنساني.
نقد الدولة القومية
يتأسس فكر عبد الله أوجلان على رفض قاطع للدولة القومية، التي يعتبرها أكثر أشكال السلطة المركزية قمعًا، إذ تُخضع المجتمعات المحلية لهيمنة ثقافية وإدارية تقمع التعددية باسم الوحدة. فالدولة القومية، في نظره، ليست مجرد جهاز قمع مادي، بل هي أيضًا بنية أيديولوجية تعمل على محو التعدد الثقافي والهوياتي لصالح هوية قومية واحدة متجانسة. ولهذا، يقترح أوجلان بديلًا يتمثل في بناء “أمة ديمقراطية”، تقوم على الانتماء الطوعي، والمواطنة الأخلاقية، وتستوعب مختلف الهويات الدينية والقومية والإثنية ضمن إطار قيمي مشترك يتجاوز الحدود القومية الصلبة.
في الفكر الإسلامي التحرري، يظهر نقد ضمني للدولة القومية كذلك، بوصفها انحرافًا عن المفهوم القرآني للأمة. فالأمة، كما يعرضها القرآن، ليست كيانًا سياديًا محدودًا بالجغرافيا والحدود، بل رابطة أخلاقية وروحية تقوم على مبادئ العدل والتكافل والتعارف. تقوم الأمة الإسلامية على الانتماء للقيم، لا على الانتساب العرقي أو القومي، ما يجعلها بطبيعتها مفتوحة وقابلة للاحتضان التعددي.
وائل حلاق يعمق هذا النقد في كتابه “الدولة المستحيلة”، حيث يجادل بأن مشروع الدولة القومية الحديثة، الذي استُورد إلى العالم الإسلامي في سياق الاستعمار وما بعده، يتناقض جذريًا مع التصور الإسلامي التقليدي للحكم والاجتماع السياسي. فالدولة الحديثة، بحسب حلاق، ليست مجرد شكل جديد من التنظيم السياسي، بل هي منظومة فكرية وإدارية ذات طابع استعماري، تقوم على إخضاع المجتمع لمنطق السيادة المطلقة، والإدارة البيروقراطية، والقانون المجرد من الأخلاق. هذه الدولة، حتى عندما تتخذ طابعًا “وطنيا” أو “إسلاميًا” شكليًا، تبقى محافظة على جوهرها الحداثي الاقصائي الذي يقوض إمكان قيام مجتمع إسلامي حقيقي.
في التصور الإسلامي التقليدي، كانت السلطة السياسية موزعة بشكل عضوي بين مؤسسات متعددة (مثل القضاء، والوقف، والعلماء)، وكان المجتمع يحتفظ بقدر عالٍ من الاستقلالية الأخلاقية عن السلطة المركزية. أما الدولة القومية الحديثة، فهي تسعى إلى احتكار التشريع والقوة والمعرفة، مما يؤدي إلى استلاب المجتمع من قدرته على التنظيم الذاتي وفق مبادئه الأخلاقية.
وهكذا، يلتقي نقد أوجلان ونقد الفكر الإسلامي التحرري، كما يحلله حلاق، في رفض اختزال التعدد الاجتماعي والروحي إلى هوية قومية واحدة تخدم مصالح نخبوية ضيقة. كما يتلاقيان في التطلع إلى نظام سياسي بديل يتجاوز الحدود القومية المغلقة، ويؤسس لرابطة سياسية وأخلاقية عابرة للعرق والقومية، قائمة على قيم العدل والرحمة والمواطنة التشاركية.
التحرر من السلطة الأبوية والذكورية
في صميم الفكر التحرري لعبد الله أوجلان تبرز أطروحة مركزية مفادها أن الاستبداد السياسي والاقتصادي ما هو إلا امتداد للاستبداد الذكوري الأول. ينطلق أوجلان من رؤية تاريخية ترى أن أول سلطة عرفتها المجتمعات البشرية لم تكن سلطة الدولة، بل سلطة الرجل على المرأة، مما يجعل من تحرر المرأة المدخل الجوهري لأي مشروع تحرر اجتماعي شامل. بناءً عليه، يُدرج أوجلان قضية المرأة في صلب مشروعه التحرري، لا باعتبارها قضية ثانوية أو مشتقة، بل بوصفها القاعدة التي يقوم عليها تفكيك بنية السلطة وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية على أسس أكثر عدالة.
أما في الفكر الإسلامي التحرري، لاسيما في قراءاته المقاصدية والنسوية المعاصرة، فتُطرح إعادة نظر جذرية في تأويل النصوص الدينية التي استُخدمت تاريخيًا لتكريس التراتبية الجندرية. تُجمع أسماء بارزة في هذا الاتجاه، مثل طه عبد الرحمن، وآمنة ودود، وأسماء المرابط، على أن الإسلام – في مقاصده الكبرى – جاء ليُصحّح أوضاع المرأة ويعيد إليها مكانتها الأخلاقية والإنسانية، لا ليؤبد دونيتها. بل إن تمكين المرأة يُعدّ، في هذا السياق، جزءًا من وظيفة الاستخلاف الإنساني في الأرض، ويتجاوز الفهم الأداتي لدورها، ليرتقي بها إلى شريكة فاعلة في صناعة المصير الحضاري للأمة
في حين يظهر هذا الالتقاء بين الفكر الإسلامي التحرري وفكر أوجلان في إعادة الاعتبار للمرأة كفاعل مركزي في مشروع التحرر، فإن السياق الحداثي الغربي انطلق من تصورً مختلفً لدوافع تحرير المرأة. فغالبًا ما ارتبطت الحركات النسوية في الغرب، خاصة في مراحلها المتأخرة، باحتياجات النظام الرأسمالي، سواء عبر إدماج المرأة في سوق العمل استجابةً لنقص اليد العاملة، أو من خلال ترويج مفاهيم “الحرية الجنسية” التي أعادت تشكيل العلاقة مع الجسد الأنثوي ضمن منطق الاستهلاك والسلعة. بهذا المعنى، لم يكن التحرير بالضرورة تعبيرًا عن وعي أخلاقي بكرامة المرأة، بقدر ما عكس تحولات اجتماعية واقتصادية خضعت لمقتضيات السوق والفردانية الليبرالية.
وعليه، فإن الفارق الجوهري بين هذه المسارات يكمن في البنية القيمية التي يستند إليها كل مشروع تحرري. ففي حين اتخذت الحداثة الغربية من الاستقلالية الفردية والانخراط في السوق والحرية الجنسية مدخلًا لتحرير المرأة، ينطلق كل من أوجلان والفكر الإسلامي التحرري من تصور أخلاقي وإنساني يرى في تحرر المرأة إعادة تأسيس للعلاقات الاجتماعية على أسس من التكافؤ والكرامة، ويضع كينونتها الإنسانية في مركز الفعل التحويلي، لا كأداة لتحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية عابرة. (15)
العدالة الاجتماعية كأساس للعيش المشترك
يرى أوجلان أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال تفكيك منطق السوق الرأسمالي، وبناء اقتصاد مجتمعي تعاوني. فبدلاً من الدولة التي توزع الفتات، أو السوق الذي يستنزف، يقترح نموذجاً قائماً على المجالس، والإنتاج المحلي، والمشاركة الشعبية في إدارة الموارد.
أما الفكر الإسلامي، فلطالما وضع العدالة الاجتماعية في صلب منظومته، من خلال آليات مثل الزكاة، والوقف، وتحريم الربا، وتكافل الأغنياء مع الفقراء. العدالة ليست شعاراً، بل مبدأً يُفعَّل على مستوى الحياة اليومية. يلتقي المشروعان في رفض احتكار الثروة والسلطة، وفي التأكيد على أن المجتمع العادل لا يُبنى دون مساواة اقتصادية حقيقية.
مركزية الجماعة والفاعلية المجتمعية
من القضايا التي يلتقي فيها المشروعان أيضاً رفض الفردانية المفرطة التي طبعت الحداثة الغربية. أوجلان يرى أن الإنسان لا يتحقق إلا في الجماعة، لا بوصفه فرداً معزولاً. فالمجتمع هو الذي يمنح الإنسان معناه وهويته، ولذلك يجب تنظيمه بشكل أفقي، لا هرمي.
في الفكر الإسلامي، نجد المفهوم ذاته تحت اسم “الجماعة”. المسلم لا يعيش في عزلة، بل ككائن جماعي، يتفاعل مع غيره ضمن منظومة أخلاقية. الفاعلية المجتمعية ليست اختياراً، بل تكليفاً. ومن هنا، يتأسس تصوّر للمجتمع بوصفه كياناً متضامناً، لا مجرد تجمّع أفراد.
العدالة البيئية كجزء من مشروع التحرر
لا يكتمل التحرر، في نظر عبد الله أوجلان، دون تحقيق التحرر البيئي. فالرأسمالية، كما يراها، لم تكتفِ باستعمار الإنسان من خلال إخضاعه لمنطق السوق والاستهلاك، بل تعدّت ذلك إلى استعمار الطبيعة ذاتها، محوّلة الكائنات الحية والموارد الطبيعية إلى مجرد سلع تُستنزف بلا رحمة. إن منطق الاستغلال اللامحدود، الذي يُنتجه النظام الرأسمالي، أدى إلى تدمير التوازن البيئي، وقطع الصلة الروحية بين الإنسان وعالمه الطبيعي. ولهذا يؤكد أوجلان أن مشروع “المجتمع الديمقراطي” لا بد أن يُبنى على أساس بيئي عميق، يستعيد احترام التنوع الحيوي، ويضع الإنسان من جديد ضمن شبكة التوازن الطبيعي، لا فوقها أو خارجها.
ويشدد أوجلان على أن التحرر البيئي ليس مسألة تكميلية أو فرعية، بل هو جزء لا يتجزأ من تحرر الإنسان نفسه. فبدون علاقة عادلة مع الطبيعة، يبقى الإنسان أسير عقلية الهيمنة والاستهلاك التي تنتج الاستعباد بأشكاله المختلفة. من هنا، يتطلب بناء مجتمع حرّ أن يتحقق انسجام بين الإنسان والبيئة، بما يحفظ التنوع البيولوجي، ويؤسس لأنماط حياة مستدامة ومتواضعة بعيداً عن النزعة الاستهلاكية المدمرة.
في الفكر الإسلامي، نجد تأكيدًا واضحًا على هذا البعد البيئي بوصفه جزءًا من رسالة الإنسان في الأرض. فالإنسان خُلق ليكون “خليفة” على الأرض، لا طاغيًا عليها، ومسؤوليته الكبرى هي حفظ الأمانة الإلهية التي تشمل حماية الطبيعة ومكوناتها. يحرم القرآن الإفساد في الأرض بكل صوره، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: 56)، مما يدل على أن التوازن البيئي ليس خيارًا بل واجب ديني وأخلاقي.
وتتجلى هذه الرؤية الأخلاقية أيضًا في الحديث الشريف الذي ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (حديث رقم 517): “الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله”. فهذا الحديث يوسع من مفهوم المسؤولية ليشمل جميع الكائنات الحية، باعتبارها جزءًا من عيال الله الذين يجب الإحسان إليهم ورعايتهم، لا الإضرار بهم أو تدمير بيئتهم.
من هنا، فإن الحفاظ على البيئة في التصور الإسلامي ليس ترفًا فكريًا أو نشاطًا ثانويًا، بل هو جزء أصيل من العبادة والعمران الصالح. إذ يُعتبر إصلاح الأرض والعناية بها مظهرًا من مظاهر الوفاء بالأمانة الإلهية، وتجسيدًا عمليًا لقيم العدل والرحمة التي تمثل جوهر الرسالة الإسلامية.
التحرر الإنساني إذا لا ينفصل عن إعادة صياغة علاقة الإنسان بالطبيعة، بحيث تقوم هذه العلاقة على الاحترام والرعاية المتبادلة، لا على الاستغلال والقهر.
اللامركزية ونظام الإدارة الذاتية
تُشكّل اللامركزية أحد المحاور الجوهرية في فكر عبد الله أوجلان، لا من حيث الشكل الإداري فقط، بل باعتبارها نموذجًا تحرريًا يعبّر عن نضج المجتمع السياسي والأخلاقي. في مشروعه للكونفدرالية الديمقراطية، تُدار المناطق من خلال مجالس محلية وكومينات، تتخذ قراراتها بشكل مباشر، وتشرف على الشؤون الخدمية والاقتصادية والثقافية، دون الحاجة إلى مركز سلطوي فوقي.
أما في الفكر الإسلامي، فمفهوم الشورى ليس فقط آلية أخلاقية، بل يحمل بذورًا واضحة لفكرة اللامركزية. فالمجتمع المسلم الأصيل كان قائمًا على توازن بين المركز (الخلافة) والأطراف (الأمصار)، حيث تدير المجتمعات شؤونها بما لا يتعارض مع القيم العامة. كما أن نماذج الوقف، والمجالس الأهلية، والعرف، كانت أدوات مجتمعية لإدارة الموارد والحكم المحلي.
يرى وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة” أن الشريعة الإسلامية لم تكن نظامًا قانونيًا مركزيًا، بل ممارسة فقهية مجتمعية لا مركزية، تعتمد على تفاعل العرف مع الفقه، والمصلحة مع النص. يشير حلاق إلى أن الدولة الحديثة بطبيعتها تميل إلى القمع، بسبب احتكارها للعنف والشرعية، في حين أن المجتمعات الإسلامية التقليدية مارست سلطتها الأخلاقية عبر شبكات من الفقهاء، والأعيان، والمجالس المحلية، وهو ما يُشبه إلى حد بعيد نموذج الإدارة الذاتية كما تطرحه الكونفدرالية الديمقراطية.
وهذا يفتح أفقًا لاستعادة مفهوم “الإدارة الذاتية” من داخل التراث الإسلامي ذاته، لا كعودة إلى الماضي، بل كبنية قابلة للتجديد، تُحقق العدالة والتمثيل والتفاعل المحلي بعيدًا عن الاستبداد المركزي.
تُظهر هذه المحاور السبعة أن بين النموذجين تقاطعات عميقة، تتجاوز الاختلافات السطحية. وبينما ينطلق أوجلان من تحليل مادي-تاريخي للسلطة، وينطلق الإسلام من وحي رباني، فإن كليهما يسعى إلى بناء إنسان حر، ومجتمع عادل، وعلاقة متوازنة مع الأرض. هذه المساحات المشتركة لا تعني إلغاء الاختلاف، بل فتح أبواب لحوار تحرّري أصيل، قد يشكّل رافعة لنقد الحداثة الرأسمالية، ولتأسيس مشروع حضاري جديد أكثر عدلاً وتعددًا.
الدفاع الذاتي كمناعة مجتمعية مشتركة
يتقاطع مفهوم الدفاع الذاتي عند عبد الله أوجلان والفكر الإسلامي التحرري حول فكرة مركزية مفادها أن المجتمع القادر على مقاومة القهر والاستلاب لا يُبنى فقط عبر أدوات تنظيمية أو عسكرية، بل يحتاج إلى ما يمكن تسميته بـ”المناعة المجتمعية الشاملة”. فكما أن الجسد لا يصمد دون جهاز مناعي داخلي، فإن المجتمع الحي لا يقاوم إلا حين يمتلك شبكة تراحمية داخلية، قادرة على تنظيم العلاقات وضبطها من دون الحاجة إلى قسر خارجي.
عند أوجلان، الدفاع الذاتي ليس محصورًا بالسلاح، بل هو بنية أخلاقية وسياسية تضم الدفاع الثقافي ضد الإبادة الرمزية واللغوية، والدفاع البيئي ضد استغلال الطبيعة، والدفاع السياسي عبر بناء المجالس القاعدية. يكتب في سوسيولوجيا الحرية: “الحرية لا تتحقق عبر القوانين المكتوبة أو الاتفاقات الرسمية، بل عبر الارتباط الأخلاقي العميق بين الأفراد والجماعة”. (16)
بهذا، يصبح الدفاع الذاتي مرادفًا لقدرة المجتمع على حماية نفسه من الداخل، لا كأفراد معزولين، بل كشبكة حية من العلاقات والمسؤوليات.
في المقابل، نجد في الفكر الإسلامي التحرري تصورًا قريبًا، يتمثل في مركزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يُعدّ واجبًا جماعيًا لحماية بنية المجتمع الأخلاقية. وكما يوضح طه عبد الرحمن: “المجتمع الذي لا يقاوم الفساد الداخلي ولا يدافع عن مقاصده العليا يفقد معنى كينونته الأخلاقية، ويتحول من جماعة حية إلى كتلة وظيفية خاضعة” (17).
بل إن مقاومة الظلم تُعتبر ذروة الجهاد في الفكر الإسلامي، كما ورد في الحديث الشريف: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر” (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني). (18)
ولتعزيز فهم هذا البعد، يمكن استحضار تحليل عبد الوهاب المسيري الذي ميّز بين المجتمع التراحمي، القائم على الحب والرحمة والواجب الأخلاقي، والمجتمع التعاقدي، القائم على النفعية الباردة والعقود القانونية (19).
ويرى المسيري أن المجتمع التعاقدي الذي تُنتجه الحداثة الرأسمالية هشّ وسريع الانهيار في الأزمات، بينما المجتمع التراحمي يمتلك قوة ذاتية للتماسك والمقاومة. وهنا يتضح أن الدفاع الذاتي الحقيقي لا ينبع فقط من الهياكل والتنظيمات، بل من نوعية الروابط الأخلاقية التي تشد المجتمع من داخله.
إن الربط بين هذه المفاهيم يُبرز أن بناء مشروع تحرري جامع بين الأمة الديمقراطية والمجتمع الإسلامي لا يمكن أن يتحقق دون إعادة الاعتبار للروابط التراحمية التي تمنح الدفاع الذاتي معناه الحقيقي، أي كدفاع عن الكينونة الأخلاقية للمجتمع، وليس فقط عن مصالحه المادية أو السياسية. بهذه القراءة، يصبح الدفاع الذاتي تجسيدًا لفكرة التحرر الجماعي القائم على الأخلاق، والتنظيم الذاتي، والتكافل، في مواجهة عالم تُفككه الحداثة إلى وحدات معزولة فاقدة للحس الجماعي.
الفصل الثالث: نقد مشترك للحداثة الرأسمالية
الحداثة كأزمة أخلاق ومعنى
ليست الحداثة الرأسمالية، كما يُحللها عبد الله أوجلان، مجرد مرحلة في التطور الاقتصادي العالمي، بل نظام شامل لإعادة تشكيل الإنسان والعلاقات والمجتمعات، وفقًا لمنطق السوق، والسيطرة، والإنتاج اللامحدود. في هذا السياق، تصبح الهوية الذاتية مُختزلة في دور استهلاكي أو وظيفي، وتُفكك الروابط المجتمعية لمصلحة المركزية الدولانية، مما يؤدي إلى خلق أفراد ومجتمعات مسلوبة الجذور، ومقطوعة عن ذاكرتها وقيمها.
يقول أوجلان: “الرأسمالية لا تنتج فقط السلع، بل تنتج الإنسان المسلوب من ذاته، والمجتمع المبتور عن جذوره”(20)
هذا التحليل يتجاوز الاقتصاد ليصل إلى البنية الأخلاقية للمجتمع، إذ يرى أوجلان أن الحداثة قتلت “الإنسان الأخلاقي”، وحوّلت الأفراد إلى وحدات في منظومة تبادل لا تعترف بالقيمة إلا من خلال الربح.
وفي مقاربة موازية، يرى طه عبد الرحمن أن الحداثة الغربية ليست فقط مشروعًا دنيويًا منفصلًا عن الدين، بل هي نمط من الوجود قائم على التفكيك الشامل للمعنى. في روح الحداثة، ينتقد طه البنية العقلانية المهيمنة التي حولت الأخلاق إلى مجرد آليات ضبط وظيفية، وحوّلت القيم إلى مفاهيم مجردة تُوظف خارج سياقها الروحي والإنساني. فيقول:
“الحداثة الغربية قامت على تفكيك المعنى من داخله، فأصبحت القيم مجرد وظائف، والأخلاق مجرد آليات” (21)
من هذا المنطلق، يصف طه الحداثة بأنها اغتراب مزدوج: اغتراب عن الروح، واغتراب عن الآخر. فهي لا تدمّر فقط العلاقة مع الله، بل تُفكك العلاقة مع الإنسان الآخر، حين تحوّل التنافس إلى قاعدة والأنانية إلى فضيلة.
وعلى هذا فانه وعلى الرغم من اختلاف اللغة والمراجع، تلتقي أطروحة أوجلان والفكر الإسلامي التحرري في اعتبار الحداثة أزمة أخلاق ومعنى، لا فقط أزمة في نمط الإنتاج أو السلطة. فكلاهما يرى أن التحرر يبدأ من استعادة الإنسان لمعناه الداخلي، ولدوره الأخلاقي في المجتمع، لا بمجرد إسقاط الأنظمة أو تبديل الحُكّام.
ولذلك، فإن بدائل الحداثة لا تُبنى فقط على تغيير البنية السياسية أو الاقتصادية، بل على إعادة تأسيس المجتمع على قاعدة أخلاقية، روحية، وجماعية، تنبع من الوعي لا من السوق، ومن المسؤولية لا من السيادة.
وهذا ما يجعل الحوار بين هذين النموذجين ليس فقط ممكنًا، بل ضروريًا في لحظة تاريخية تعيد فيها المجتمعات التفكير في شروط وجودها وكرامتها في وجه عولمة بلا روح، ودولة بلا معنى.
الدولة القومية: من التجانس إلى العنف
في تحليله للدولة القومية، لا يكتفي عبد الله أوجلان بوصفها إطارًا سياسيًا إداريًا، بل يرى فيها أكثر أشكال السلطة المركزية قمعًا واحتكارًا للهوية. فالدولة القومية، بحسبه، ليست فقط أداة للضبط، بل جهاز أيديولوجي يعيد تشكيل الوعي الجماعي على أساس من التجانس القسري، حيث تُمحى الفروقات الإثنية والدينية والثقافية باسم “الوحدة الوطنية”، وتُفرض هوية مركزية معيارية تُقصي كل ما عداها.
يقول أوجلان: “الدولة القومية هي أكثر أشكال التنظيم السلطوي قمعًا، لأنها تمحو الفروقات باسم الوحدة، وتفرض نمطًا ثقافيًا واحدًا”(22)
هذا التحليل ينسجم مع نقد واسع للحداثة السياسية، حيث لم تكن الدولة القومية مجرد شكل للتمثيل، بل آلة لتطبيع السلطة وإنتاج المواطن المطيع، وتحويل التعدد إلى خطر وجودي يجب احتواؤه أو استئصاله.
هذه الرؤية تتقاطع مع التصور الإسلامي التقليدي، الذي لم يؤسس الأمة على عنصر العرق أو الأرض أو الدم، بل على الميثاق الأخلاقي والروحي. تظهر هذه الفكرة بوضوح في وثيقة المدينة، التي اعتبرت المسلمين واليهود وغيرهم “أمة واحدة من دون الناس”، وفي السور المدنية مثل الحجرات التي أكدت على التنوع والتعارف، لا على الصراع أو التمايز العرقي:
﴿يأيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
في هذا السياق، يُنبّه مالك بن نبي إلى أن الدولة القومية لم تكن دائمًا أداة تحرر في العالم الإسلامي، بل غالبًا ما جرى استخدامها – خاصة بعد الاستعمار – كوسيلة لتفكيك الأمة الإسلامية وإثارة النزاعات الداخلية. في كتابه الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، يقول: “لقد دخلنا عصر التمزق باسم الأمة القومية، فضعنا بين القومية والدين، ولم نعد نعرف من نحن”(23)
إذا فان نقد الدولة القومية ليس خاصًا بمدارس فكرية علمانية أو يسارية، بل هو قاسم مشترك في المشاريع التحررية ذات البعد الأخلاقي والروحي، التي ترى في التعدد نعمة لا تهديدًا، وفي المجتمع مصدرًا للشرعية، لا مجرد أداة في يد الدولة.
الاقتصاد الرأسمالي: تفكيك الروابط وتشييء الإنسان
ينتقد عبد الله أوجلان الرأسمالية بوصفها أكثر من مجرد نظام اقتصادي، فهي منظومة شاملة تسعى إلى إعادة تشكيل الإنسان والمجتمع من خلال منطق السوق. ففي هذا النظام، لا يُنظر إلى الإنسان ككائن أخلاقي أو اجتماعي، بل كوسيلة للإنتاج والاستهلاك، يفقد فيها ذاته، وتُفرغ علاقاته من معناها، ويُعاد إنتاجه كرقم في معادلة السوق.
يقول أوجلان في هذا السياق: “كل ما تلمسه الرأسمالية يتحول إلى بضاعة، بما في ذلك الحب، الأمومة، المعرفة” (24)
هذا القول يعكس عمق النقد الوجودي للرأسمالية، حيث لا يتوقف الاستلاب عند المادة، بل يمتد إلى العلاقات الإنسانية، التي تُختزل في قيمتها السوقية. فحتى الحب يُعرض كمنتج، والمعرفة تُباع كخدمة، والأمومة تُحول إلى وظيفة اجتماعية مؤقتة.
وفي مقابل هذا التشييء الشامل، يُقدّم الفكر الإسلامي التحرري تصورًا اقتصاديًا بديلًا، يقوم على العدل والتكافل، وتحريم الاستغلال، وردّ المال إلى وظيفته الأخلاقية. فالمال في الإسلام ليس هدفًا في ذاته، بل أداة لتحقيق التراحم والاستقرار. ولذلك فإن الربا، والاحتكار، والتكديس، ليست فقط اختلالات مالية، بل إخلال بالعلاقة الأخلاقية بين الإنسان والمال.
في هذا السياق، يقول طه عبد الرحمن: “الربا ليس فقط ظلمًا ماليًا، بل هو إفساد لعلاقة الإنسان بالمال، حيث يتحول المال من وسيلة إلى غاية” (25)
ويضيف طه في أعماله الأخرى أن تحرير الاقتصاد يبدأ من تحرير الإنسان من عبودية الأشياء، وإعادة الاعتبار للقيم في كل معاملة، سواء كانت تجارية أو اجتماعية. فالعدالة لا تُقاس فقط بكمية المال المتداول، بل بمدى تحقق المعنى الأخلاقي فيه.
يتقاطع فكر أوجلان مع المقاربات الإسلامية المقاصدية في نقد الرأسمالية من الداخل، لا فقط بوصفها نظام استغلال، بل كمنظومة تشويه للعلاقات، وقلب للأولويات، وتحويل الإنسان من فاعل أخلاقي إلى كائن استهلاكي.
فإذا كانت الرأسمالية تفكك الروابط وتُشيّء الإنسان، فإن المشروع التحرري الإسلامي يسعى إلى إعادة تفعيل البعد القيمي في الاقتصاد، وربط المال بالكرامة، لا بالجشع، وبالغاية الأخلاقية، لا بالربح المجرد.
الفردانية المعزولة في مواجهة الجماعة الأخلاقية
يتفق عبد الله أوجلان والمفكرين الإسلاميين التحرريين أمثال طه عبد الرحمن، على أن الحداثة الغربية، لا سيما في صيغتها الرأسمالية، قد أنتجت إنسانًا مفككًا، منزوع الجذور، محصورًا في فردانيته المعزولة. لم تعد الحرية، في هذا التصور، علاقة مع الآخر أو مسؤولية أخلاقية، بل تحوّلت إلى غياب للقيود، واختيار فردي محروم من المعنى.
ويرى أوجلان أن هذه الفردانية جاءت على أنقاض الجماعة الأخلاقية، وأن الإنسان الحديث قد خسر المعنى بمجرد ما فُكّ ارتباطه بمجتمعه ومحيطه القيمي. يقول: “التحرر لا يتحقق عبر الفردانية، بل عبر جماعة حرة أخلاقية قادرة على التنظيم” (26)
هنا أوجلان يتجاوز المفهوم الليبرالي للحرية بوصفه حرية “من” القيود، ليطرح حرية “مع” الآخرين، أي ضمن علاقة مسؤولة ومتبادلة، حيث تكون الجماعة الضامن للقيمة والمعنى.
ويجد هذا الطرح صدى واضحًا في التصور الإسلامي، الذي يرى أن الإنسان لا يُفهم إلا من خلال انتمائه إلى الجماعة المؤمنة والأمة المتكافلة. فالحرية، كما يعبّر عنها طه عبد الرحمن، ليست تحررًا من الالتزام، بل حضورًا للمعنى في الفعل، أي أن الإنسان الحر هو من يتحرك ضمن أفق قيمي، لا من يتصرف بدون قيد.
“الحرية في الإسلام ليست غياب القيد، بل هي حضور المعنى والمغزى في كل فعل” (27)
وهكذا، فإن الحرية التحررية عند أوجلان، والحرية الأخلاقية عند طه عبد الرحمن، يلتقيان في أنه لا تحرر حقيقي خارج الجماعة، ولا معنى للفردانية إن لم تكن جزءًا من نسيج إنساني وقيمي أوسع.
فالمشروع التحرري البديل الذي يبنى على جماعة أخلاقية واعية قادرة على التنظيم الذاتي، تستمد مشروعيتها من القيم لا من الدولة، ومن العلاقة لا من السيطرة. يشكل الأساس الذي يمكن أن يجمع بين الأمة الديمقراطية والمجتمع الإسلامي، بوصفهما نماذج جماعية ضد التفكك الحديث.
الدولة الحديثة بين السيادة والأخلاق: وائل حلاق كجسر نقدي
يمثل المفكر وائل حلاق نقطة تقاطع تحليلية مهمة بين نقد الدولة القومية الحديثة في فكر عبد الله أوجلان، والنقد الإسلامي الفلسفي لمفهوم السيادة. في كتابه “الدولة المستحيلة”، يؤكد حلاق أن الدولة الحديثة لا يمكن أن تكون إسلامية لا في بنيتها ولا في وظيفتها، لأنها تأسست على مبدأ السيادة الذاتية المطلقة، بينما تقوم الشريعة على مرجعية خارجية أخلاقية تنظم السلطة وتحدّها.
“لا يمكن للدولة الحديثة أن تكون أخلاقية، لأن الأخلاق في نظام السيادة الحديثة لا تملك سلطة إلزام. أما الشريعة، فهي أخلاقية أولاً، ثم قانونية” (28).
هذا الطرح يلتقي مع نقد أوجلان الجذري لمفهوم السيادة، إذ يرى أن الدولة القومية هي تتويج لهيمنة السلطة الذكورية والتاريخ الإمبريالي. وكما يكتب: “الدولة ليست نتيجة عقد اجتماعي، بل نتيجة قرون من العنف المُنظم (29)
من هنا، فإن فكرة تفكيك الدولة بوصفها بنية فوق-أخلاقية تصبح منطلقًا مشتركًا، سواء في النموذج الأوجلاني الذي يدعو إلى كونفدرالية لا سلطوية، أو في النموذج الإسلامي الذي – كما يعيد حلاق تأويله – يرى أن السلطة يجب أن تبقى دومًا خاضعة لمنظومة قيم أعلى منها، أي الشريعة بمعناها الأخلاقي العميق.
إن إدراج حلاق في هذا السياق لا يربط فقط بين نقدين مختلفين للدولة، بل يفتح مجالًا لبلورة مشروع بديل يستند إلى مركزية الأخلاق، وتعددية السلطة، وزوال مفهوم السيادة المطلقة، وهي ثلاثية تمثّل قلب الرؤية التحررية المشتركة بين الإسلام التحرري والأمة الديمقراطية.
الفصل الرابع: نحو تكامل نظري ومشروع عملي
منطلقات التكامل: من النقد إلى البناء
إذا كانت الفصول السابقة قد أظهرت تقاطعات جوهرية بين نموذج الأمة الديمقراطية كما صاغه عبد الله أوجلان، والنموذج الإسلامي التحرري القائم على مقاصد الشريعة والفاعلية الأخلاقية، فإن الرهان الأكبر يكمن في الانتقال من مرحلة التحليل والنقد إلى مرحلة البناء والتفعيل. فالتحرر لا يكتمل بمجرد تشخيص أمراض الحداثة الرأسمالية، بل يحتاج إلى مشروع عملي يعيد صياغة المجتمع على أسس أخلاقية وتشاركية ولا سلطوية.
يرى عبد الله أوجلان أن التاريخ ليس مسارًا موضوعيًا تحكمه الحتمية، بل هو بناء إنساني مشروط بوجود “فاعلين أخلاقيين” يعيدون تنظيمه وتوجيهه. وفي هذا السياق، يقول:
“التاريخ لا ينتج المعنى من تلقاء نفسه، بل يتطلب فاعلين أخلاقيين ينظمونه ويصوغونه” (30)
وفي ذات الروح، يذهب طه عبد الرحمن إلى أن التحرر الحق لا يبدأ من البنية السياسية أو الاقتصادية، بل من تحرير المعنى، أي من الوعي والرؤية الأخلاقية للوجود، ثم السلوك، فالهياكل:
“التحرر لا يكون إلا بتحرير المعنى أولًا، ثم السلوك، ثم البنية” (31)
هذان الاقتباسان، من مرجعيتين مختلفتين، يلتقيان في أن المعنى الأخلاقي هو أساس أي مشروع تحرري. ومن هذا التوافق تنبثق ملامح التكامل التالية، التي يمكن أن تؤسس لنموذج عملي:
– الأخلاقية الجماعية بدل القانون السلطوي الذي يُفرض من فوق
– التنظيم القاعدي القائم على المجالس والشورى بدل البيروقراطية المركزية
– الاقتصاد التشاركي والتكافلي بدل السوق الرأسمالي القائم على الربح والاستغلال
– المساواة الجندرية كشرط للتحرر المجتمعي لا مجرد شعار ثانوي
– الروحانية العملية التي ترتبط بالسلوك والمجتمع، بدل التدين الفردي الشكلي
المجتمع كفاعل: الكومين الإسلامي-الديمقراطي:
في ضوء هذه القيم، يمكن تخيّل نموذج تجريبي هجين، يجمع بين مبادئ الكومين كما يطرحها أوجلان، وبين القيم الإسلامية التحررية المستندة إلى الشورى والمقاصد. هذا النموذج ليس افتراضيًا، بل يمكن تطبيقه تدريجيًا في المناطق التي تتوافر فيها البنى المحلية القوية والمبادرات المجتمعية.
نسمي هذا النموذج “الكومين الإسلامي-الديمقراطي”، ويمكن أن يتأسس على المبادئ التالية:
– المجالس المحلية كأدوات تقرير جماعي، مستلهمة من الشورى والكونفدرالية المجتمعية
– المساجد والمراكز الثقافية كمؤسسات مجتمعية لا سلطوية، تُدير مجالات التعليم، التكافل، والبيئة، بعيدًا عن هيمنة السلطة السياسية أو الطائفية
– الزكاة والوقف كنظام تمويل بديل، يعيد توزيع الموارد خارج منطق السوق والبنوك الربوية
– مراكز المرأة المستقلة، تُعنى بتأهيل النساء وتمكينهن اجتماعيًا واقتصاديًا، دون وصاية أيديولوجية أو دينية
– التحكيم القيمي بدل القضاء السلطوي، حيث يُحتكم إلى أهل الخبرة والعدالة والوعي الأخلاقي
يرد في أدبيات أوجلان ما يدعم هذا التوجه: “الحرية لا تُعطى من فوق، بل تُبنى من القاعدة، عبر علاقات إنسانية مسؤولة” (32)
وهذا الطرح ينسجم بوضوح مع التوجيه القرآني: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد: 11)، حيث يُربط التغيير السياسي والاجتماعي بالفعل الأخلاقي الذاتي.
بناء التحالف التحرري: ما بعد الهويات المغلقة
تكمن إحدى أهم ثمار هذا التكامل في تفكيك الانقسامات التاريخية التي أعاقت تشكل مشروع تحرري جامع في العالم العربي والإسلامي. فعبر عقود طويلة، وُضعت ثنائيات صراعية مثل “الإسلاميين مقابل اليساريين”، أو “الكرد مقابل العرب”، بطريقة أسهمت في تعميق الانقسام، وتفتيت الجهود، وتحويل الصراع من صراع ضد القمع إلى صراع بين الضحايا أنفسهم.
أما التكامل بين النموذجين، فيمكنه أن يفتح أفقًا جديدًا لـتحالف أخلاقي-سياسي-اجتماعي، يقوم على احترام التعدد، لا على ابتلاع الآخر. ومن أجل تحقيق ذلك، يجب إعادة صياغة الهوية، لا كمصدر صراع وتمييز، بل كمجال للتفاعل والتكامل.
يؤكد أوجلان هذا المعنى بقوله: “الأمة الديمقراطية هي أفق للتعايش، لا مشروعًا للسلطة” (33)
ويتقاطع هذا مع ما يقوله مالك بن نبي حين اعتبر أن الأمة الحية ليست من تحتكر السلطة، بل من تنتج الإنسان القادر على التمدن: “الأمة الحية هي التي تعيد إنتاج الإنسان القادر على التحضر لا القادر على السيطرة “(34)
تحديات التطبيق وأدوات المواجهة
رغم منطقية التكامل النظري ووضوح الحاجة إليه، تظل هناك تحديات جدية تعوق تحويله إلى مشروع تطبيقي واقعي. غير أن هذه التحديات لا ينبغي أن تُفهم كعوائق نهائية، بل كمنبهات لتحديد الأولويات وتطوير آليات المواجهة. فيما يلي تفصيل لأبرز التحديات، مع اقتراح آليات وأدوات لمعالجتها:
أولًا: الشك المتبادل بين التيارات الإسلامية واليسارية
يُعد الشك المتبادل بين التيارات الإسلامية واليسارية أحد أبرز العوائق أمام بناء مشروع تحرري مشترك، وهو شكٌ متجذر ليس فقط في الخلافات النظرية، بل في تجارب سياسية صدامية، غالبًا ما أُعيد تأويلها بشكل أيديولوجي صارم تمتد جذور هذا الشك في:
- الخلفية الأيديولوجية: اليسار، لا سيما في صيغته الماركسية الكلاسيكية، نقد الدين بوصفه أداة للهيمنة والوعي الزائف، مما جعله في نظر الكثير من الإسلاميين تيارًا معاديًا للهُوية والعقيدة.
بالمقابل، نظرت بعض التيارات الإسلامية إلى اليسار باعتباره تيارًا ماديًا وعلمانيًا يستهدف المرجعية الشرعية ويسعى إلى إقصاء الدين من المجال العام.
- الصراعات السياسية في القرن العشرين: في العديد من الدول العربية والإسلامية، خاضت الحركات اليسارية والإسلامية صراعات دموية أو تنافسًا مريرًا على السلطة، وغالبًا ما تحالفت أنظمة سلطوية مع أحد الطرفين ضد الآخر، مما رسّخ صورًا نمطية عدائية.
مثلًا، في مصر في الخمسينات والستينات، تعرّض الإسلاميون للقمع في عهد عبد الناصر، بينما اعتبروا أن النظام القومي-اليساري يُقصي الدين. وفي المقابل، نظر بعض اليساريين إلى التيارات الإسلامية كأدوات رجعية تتواطأ مع الرأسمالية أو الاستعمار.
- غياب حوار فلسفي عميق: غالبًا ما ظلَّ كل طرف يتحدث في دوائره الخاصة، دون السعي لبناء لغة مشتركة أو مساءلة مفاهيمه.
كانت العلاقة بين الطرفين صراعية لا تفاعلية، تستند إلى ردود أفعال لا إلى تفكير مشترك في الأزمات والبناء المشترك.
- نتيجة هذا التاريخ: بات التحالف بين الإسلاميين واليساريين يُنظر إليه كتناقض بنيوي، رغم أن كليهما يشترك في رفض الهيمنة الغربية، وانتقاد الرأسمالية، والدعوة للعدالة الاجتماعية. لكن هذا الاشتراك بقي معطلاً بفعل الشك المتبادل، وغياب الثقة، وتضخم الصور النمطية.
آليات المواجهة المقترحة:
1- إطلاق مساحات حوار فكرية غير مؤدلجة
- إنشاء منتديات فكرية ومنصات نقاش تشارك فيها شخصيات من التيارين الإسلامي واليساري، شرط أن تكون هذه المساحات خارج الاصطفافات الحزبية الصلبة، ومبنية على البحث عن المشتركات لا الانتصار للذات.
- يُشجع أن تكون هذه المنتديات محلية ومفتوحة للجمهور، مع إمكانية تدوين نتائجها ونشرها لتعميم الأثر.
2- تفكيك الصور النمطية عبر النقد الذاتي المشترك
- على كل طرف أن يُنتج خطابًا نقديًا داخليًا، يعترف بالأخطاء التاريخية، ويصحح الروايات المؤدلجة عن الآخر.
- من المفيد إصدار كرّاسات فكرية مشتركة تتناول، مثلًا،: “نقد الإسلاميين لليسار: مراجعات”، و”نقد اليسار للإسلاميين: من الصدام إلى التلاقي”.
3- إطلاق مشاريع ميدانية ذات بُعد تحرري مشترك
- التعاون في مشاريع محو الأمية، تنمية محلية، أو مبادرات بيئية، تُظهر أن العمل المشترك يولّد الثقة، ويعيد صياغة العلاقات على أساس الفعل لا الشعار.
- هذه المشاريع يجب أن تكون بقيادة مجتمعية لا نخبوية، وأن تتجنب التنافس على التمثيل.
4- بناء لغة فكرية مشتركة جديدة
- دعم الباحثين الشباب والكتاب الجدد لإنتاج خطاب فكري تركيبي يمزج بين الأخلاق الإسلامية والمفاهيم التحررية (مثل العدالة، التحرر من الدولة، نقد الرأسمالية، إلخ).
- ويُقترح إطلاق مجلات فكرية أو برامج بودكاست تقوم على هذه الرؤية.
ثانيًا: الاستقطاب القومي والمذهبي
يُعد الاستقطاب القومي والمذهبي من أخطر التحديات البنيوية التي تواجه أي مشروع تحرري جامع. فهو لا يُضعف فقط إمكانيات التعاون بين مختلف مكونات المجتمع، بل يُحوّل الصراع من صراع ضد القمع إلى صراع بين الهويات نفسها.
تغذي هذا الاستقطاب عوامل مركبة:
- الإعلام الرسمي والخاص الذي يستثمر في تأجيج الانقسام الطائفي أو العرقي لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.
- الصراعات الإقليمية (مثل التوترات بين إيران والخليج، أو تركيا والكرد، أو السنة والشيعة) التي تُستخدم فيها الهويات الدينية والقومية كأدوات حرب ناعمة أو صلبة.
- التنشئة الاجتماعية القائمة على سرديات مغلقة، تقدّس الذات وتُشيطن الآخر، وتبني حدودًا ذهنية يصعب تجاوزها.
نتيجة لذلك، يُعاد إنتاج الانقسام على مستوى الوعي، ويُصبح التعايش ذاته مهددًا، ويُصوَّر أي مشروع مشترك على أنه تهديد لهوية الطرف الآخر.
آليات المواجهة المقترحة:
- تحرير الخطاب من قبضة الهوية المغلقة
- دعم المبادرات الثقافية والدينية التي تُركّز على المشتركات الإنسانية والإيمانية بدل التركيز على العقيدة أو العرق كحدود فاصلة.
- يُمكن أن تُطلق حملات إعلامية ومجتمعية تحت شعارات مثل: نتشابه أكثر مما نختلف، أو الرحمة قبل الانتماء.
- إصلاح التعليم باتجاه التعددية النقدية ومراجعة المناهج المدرسية والجامعية التي تُعيد إنتاج الصور النمطية أو تنحاز لهوية واحدة على حساب الأخرى.
- إدخال مادة التعايش المدني والفكر النقدي كمقررات رسمية تُعلّم الطلاب كيف يفكرون لا ماذا يعتقدون.
- تمكين الفنون والآداب كجسر بين الهويات
- إنشاء فضاءات تواصل مجتمعية خارج الإطار الرسمي
- تأسيس مقاهي حوار، أو منتديات شبابية، أو مجموعات قراءة مشتركة، تجمع بين أفراد من مختلف الطوائف والقوميات حول قضايا حياتية، لا أيديولوجية.
ثالثًا: هيمنة الدولة على المجالين الديني والمجتمعي
تُشكّل هيمنة الدولة على المجالين الديني والمجتمعي عائقًا بنيويًا أمام أي مشروع تحرري يسعى لتفعيل المبادرة من القاعدة. فالأنظمة السياسية القائمة، سواء كانت سلطوية صريحة أو ديمقراطيات شكلية، تميل إلى احتكار الدين عبر مؤسسات رسمية (مثل وزارات الأوقاف، أو المجالس الفقهية المُعيّنة)، تُفرغ الخطاب الديني من محتواه التحرري وتُوظفه في خدمة الطاعة السياسية.
وفي الوقت ذاته، تفرض الدولة قيودًا بيروقراطية وأمنية على التنظيم المجتمعي، من خلال قوانين الجمعيات، أو الرقابة على التمويل، أو شيطنة الحركات الأهلية، ما يُضعف قدرة المجتمع على إنتاج سلطته الأخلاقية وتنظيم ذاته ذاتيًا.
بهذا الشكل، تتحول المؤسسة الدينية إلى ذراع أيديولوجي للدولة، ويتحول المجتمع المدني إلى مشهد خاضع أو صوري، الأمر الذي يعاكس كل أسس المشروع التحرري الذي يربط بين الأخلاق، والإيمان، والسياسة من القاعدة.
آليات المواجهة المقترحة:
1- دعم مبادرات دينية مستقلة ذات مصداقية شعبية
- إنشاء حلقات علمية ومساحات تعليم ديني بديلة، لا ترتبط بالدولة ولا تخضع لتوجهاتها، بل تُعيد ربط الدين بالقيم المجتمعية الحية مثل العدل، الرحمة، والحرية.
- من الضروري أن يكون خطاب هذه المبادرات شعبيًا وتشاركيًا لا نخبويًا أو سلطويًا.
2- بناء منظمات مجتمع مدني تشاركية ومُحصنة
- التأسيس على قواعد الشفافية، الديمقراطية الداخلية، والتمويل المحلي، ما يمنح هذه المنظمات استقلالية واستدامة، ويجعلها أقل عرضة للاختراق أو الابتزاز.
- إدماج المجالس الشعبية أو الكومينات المحلية في عملية اتخاذ القرار والتنفيذ، مما يُعيد توزيع السلطة نحو المجتمع.
3- توثيق قصص النجاح المجتمعية ونشرها كأمثلة مُلهِمة
- جمع ورصد تجارب ناجحة لمبادرات محلية، سواء في التعليم، التكافل، أو البيئة، نمت رغم القمع أو الإقصاء.
- تحويل هذه القصص إلى أدوات تعليمية وإعلامية تحفز الناس على المبادرة وتُظهر أن التغيير ممكن.
4- إنشاء شبكات تضامن بين المبادرات المجتمعية
- ربط المجالس واللجان الأهلية في شبكة واحدة تُبادل الخبرات، وتُنسّق الجهود، وتشكّل كتلة مقاومة ناعمة أمام المركزية الدولانية.
رابعًا: غياب بنية معرفية جامعة
واحدة من أبرز العقبات أمام تشكيل مشروع تحرري يجمع بين الفكر الإسلامي التحرري والأمة الديمقراطية هي غياب بنية معرفية جامعة، يمكن أن تُؤسس لحوار حقيقي بين المرجعيات، وتنتج خطابًا فكريًا يتجاوز القطيعة والجمود.
حيث أن المشهد الفكري في العالم العربي والإسلامي لا يزال، في أغلبه، منقسمًا إلى خطابات أحادية متصلبة:
- فهناك من يقدّس المرجعية الإسلامية بمنطق سلفي مغلق، يرفض كل ما هو حداثي أو نقدي.
- وهناك من يتبنى الرؤية الماركسية أو العلمانية أو القومية بصيغتها المؤدلجة، ويرفض كل ما يمتّ إلى الدين بصلة.
وبين هذين النمطين، غابت المبادرات التي تسعى إلى التفكير المركب، الذي يربط بين الفقه المقاصدي، والتحليل النقدي للسلطة، والفكر السياسي والاجتماعي المعاصر. كما أن المؤسسات الأكاديمية في معظمها إما خاضعة للدولة، أو خائفة من المجازفة الفكرية.
نتيجة ذلك، بقيت النخب منقسمة، والجسور المعرفية بين التيارات شبه منعدمة، في حين أن الحقول الجديدة (كالدراسات ما بعد الكولونيالية، أو السوسيولوجيا السياسية) لا تزال غائبة أو غير مدمجة بعمق في التفكير الإسلامي أو التحرري المحلي.
آليات المواجهة المقترحة:
1- تأسيس مراكز أبحاث مستقلة ومتعددة المرجعيات
- تشجّع على إنتاج فكر تركيبي، يربط بين الفلسفة الإسلامية (وخاصة المقاصدية)، وأدبيات الحركات الاجتماعية، والتحليل البنيوي للسلطة والدولة.
- يُشترط في هذه المراكز أن تكون مستقلة تمويليًا، وتحكمها معايير علمية لا حزبية أو أيديولوجية.
2- تشجيع الكتابات الشبابية والكتابة الجماعية
- دعم مبادرات شبابية عابرة للتيارات تنتج مقالات، كتب، وثائق بحثية، تتجاوز الانقسامات التقليدية.
- فتح منصات نشر مفتوحة ومرنة تتيح للشباب أن يُعبّروا عن أفكارهم دون رقابة أيديولوجية.
3- تطوير مناهج تعليمية هجينة وجريئة
- إدماج الفكر الإسلامي النقدي في البرامج الجامعية، إلى جانب الفكر الغربي التحرري، وتقديمه بلغة تركيبية تربط بين النص والواقع.
- تخصيص مساقات حول: “الدين والحداثة”، “الفكر التحرري الإسلامي”، “المجتمع والدولة بعد الكولونيالية”.
4- تشجيع الترجمة والنقد المتبادل بين المرجعيات
- ترجمة أعمال مفكرين تحرريين عالميين (مثل بوكتشين، فانون، نانسي فريزر) إلى اللغة العربية ضمن سياق تفاعلي.
- وتحفيز الكتّاب الإسلاميين على نقد ذاتي داخلي يعيد تأصيل النصوص بما يناسب العالم المعاصر.
التحديات ليست نهاية الطريق، بل بدايته. إذ يمكن لكل تحدٍّ أن يكون مدخلًا لإبداع أدوات جديدة. والمفتاح هنا هو البدء من القاعدة، وبناء الثقة من الأسفل، وتمكين المجتمع ليكون فاعلاً لا تابعًا. حينها فقط يصبح التكامل بين الأمة الديمقراطية والمجتمع الإسلامي مشروعًا واقعيًا، لا مجرد تصور نظري.
ملخص البحث
يحاول هذا البحث أن يفتح أفقًا غير تقليدي للتفكير في البدائل الاجتماعية والسياسية الممكنة في عالم تتهاوى فيه الأسس الأخلاقية والسياسية التي قامت عليها الحداثة الرأسمالية. عبر المقارنة بين فكر عبد الله أوجلان ومبادئ الأمة الديمقراطية من جهة، والرؤية الإسلامية التحررية المقاصدية من جهة أخرى، تبيّن أن هناك أرضية فكرية وأخلاقية مشتركة، تقوم على مركزية المجتمع لا الدولة، والأخلاق لا السلطة، والتكافل لا السوق، والتعدد لا الإقصاء.
لقد بيّن البحث أن هذه الأرضية ليست افتراضية أو رمزية فقط، بل يمكن تطويرها لتصبح مشروعًا تحرريًا عمليًا، قادرًا على إعادة بناء الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي تعاني من التفكك، الاستبداد، والتبعية الاقتصادية. وتكمن قوة هذا المشروع في كونه مشروعًا لا مركزيًا، قيميًا، وقائمًا على الفعل القاعدي المنظم، عوضًا عن النماذج السلطوية سواء كانت دينية أو قومية أو دولانية.
كما أشار البحث إلى أن التكامل بين المرجعيتين لا يعني الذوبان أو التوفيق القسري، بل هو حوار نقدي يؤسس لتحالف إنساني جديد، يتجاوز الانقسامات التاريخية بين الإسلاميين واليساريين، وبين الشعوب المضطهدة في المنطقة. وقد يكون هذا التكامل أحد مفاتيح تجاوز الأزمات المركبة التي تعاني منها المنطقة: من أزمة الدولة، إلى أزمة المعنى، إلى أزمة العلاقة بين الفرد والمجتمع.
لكن النجاح في تحويل هذا الطموح النظري إلى مشروع فعلي يتطلب شروطًا معرفية وسياسية، من بينها: تعزيز الحوار الفكري بين التيارات التقدمية، وتطوير أدوات تنظيم قاعدية تشاركية، والانفتاح على تجارب تحررية سابقة (مثل الزاباتيين، أو تجارب الاقتصاد التعاوني)، والاستفادة من الغنى الروحي والرمزي للفكر الإسلامي التحرري.
إن التقاء فكر أوجلان والإسلام التحرري ليس فقط ممكنًا، بل هو ضرورة تاريخية، أمام عالم لا يكف عن إنتاج العنف والفراغ. وما يحتاجه هذا اللقاء هو شجاعة المفكرين، وجرأة المنظمين، وصدق المؤمنين بالحرية.
ملحق
مقترح مشروع عملي: بناء شبكة تحالف تحرري محلي
فكرة المشروع
يهدف المشروع إلى تأسيس شبكة محلية نموذجية تجمع بين المبادئ التنظيمية للأمة الديمقراطية (كما صاغها عبد الله أوجلان) والمقاصد الأخلاقية للفكر الإسلامي التحرري، بحيث تكون نموذجًا عمليًا لاختبار إمكانات التكامل بين المرجعيتين في مجتمع محدد.
أهداف المشروع
- بناء مجالس محلية قاعدية (كومينات وشورى) تدير شؤون المجتمع المحلي بشفافية وعدالة.
- تفعيل منظومات التكافل (زكاة، وقف، صناديق تعاونية) لتمويل الأنشطة بعيدًا عن السوق الرأسمالي.
- إطلاق مبادرات بيئية ومجتمعية تحترم التوازن الطبيعي والقيم الأخلاقية.
- تمكين النساء والشباب كمحركات مركزية في المشروع.
- خلق آليات دفاع ذاتي مجتمعية (أخلاقية، ثقافية، تنظيمية) لمواجهة القهر أو الاستلاب أو التدخلات السلطوية.
خطوات التنفيذ
- عقد ورش عمل تشاركية تضم نشطاء إسلاميين تحرريين، ونشطاء ديمقراطيين تحرريين، وممثلين عن المجتمع المحلي، لصياغة ميثاق عمل مشترك.
- تشكيل لجان متخصصة (لجنة تكافل، لجنة إدارة موارد، لجنة تمكين نساء، لجنة شبابية، لجنة بيئية).
- إطلاق مشاريع صغيرة:
- أسواق تعاونية
- مساحات تعليم شعبي
- مبادرات زراعية بيئية
- مجموعات حوار ديني-اجتماعي
- إعداد نظام داخلي يدمج بين مبدأ الشورى الإسلامي ومبدأ الكومين الأوجلاني في اتخاذ القرار.
- توثيق التجربة بشكل مستمر ونشرها كدراسة حالة لاختبار صلاحية الفكرة في مجتمعات أخرى.
النتائج المتوقعة
- تعزيز الثقة بين التيارات الفكرية المتنوعة.
- بناء نموذج تحرري واقعي يُثبت إمكانات التكامل النظري.
- خلق مساحة مجتمعية مقاومة ومستقلة عن هيمنة الدولة القومية أو السوق الرأسمالي.
المصادر والمراجع:
- الألباني، محمد ناصر الدين. السلسلة الصحيحة. الرياض: مكتبة المعارف.
- أوجلان، عبد الله. تحرير الحياة: ثورة المرأة. دهوك: دار آفا، 2013.
- أوجلان، عبد الله. الكونفدرالية الديمقراطية. ترجمة دار ترانس ميديا للنشر، 2011.
- أوجلان، عبد الله. سوسيولوجيا الحرية: المجلد الأول من مانيفستو الحضارة الديمقراطية. ترجمة مركز هافال. دهوك: دار آفا، 2020.
- ابن تيمية. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. القاهرة: دار الكتب العلمية، 1990.
- بن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلدان المستعمرة. دمشق: دار الفكر، 1959.
- بن نبي، مالك. شروط النهضة. دمشق: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1986.
- بن نبي، مالك. مشكلة الثقافة. دمشق: دار الفكر، 1959.
- حلاق، وائل. الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014.
- عبد الرحمن، طه. روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس حداثة إسلامية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006.
- عبد الرحمن، طه. روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012.
- عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000.
- عبد الرحمن، طه. سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2011.
- المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر. القاهرة: دار الشروق، 2001.
- المرابط، أسماء. الإسلام والنساء: أسئلة من أجل الإصلاح. الدار البيضاء: دار توبقال، 2010.
- المرابط، أسماء. الرجال والنساء في الإسلام: أي مساواة؟ ترجمة بشرى لغزالي. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2012.
- ودود، آمنة. القرآن والمرأة: قراءة نسوية للإسلام. بيروت: دار الساقي، 1999.