قضايا فساد بالجملة، أثيرت خلال الأيام القليلة الماضية في تونس على خلفية تورط عدد من المسؤولين في الحكومات السابقة في ملفات من الحجم الثقيل تتعلق أساسا بتهم سوء التصرف وتضارب المصالح واستغلال النفوذ ومخالفة قوانين عقد الصفقات العمومية.
وفي مقدمة المسؤولين الذين يواجهون كل هذه التهم، نجد إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة السابق، وصالح بن يوسف وزير الصناعة في حكومة الفخفاخ، والنائب البرلماني جلال الزياني.
تضارب المصالح
وبخصوص التهم الموجهة لرئيس الحكومة السابق، فقد أكد محسن الدالي، رئيس وحدة الإعلام والاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، ان القطب القضائي الاقتصادي والمالي، فتح مؤخرا ثلاثة ملفات تتعلّق بشبهة تضارب المصالح في ثلاث صفقات تجارية. ويشتمل الملف الأول على شبهة تعمد تقديم تصريح خاطئ وإخفاء حقيقة مكاسب إلياس الفخفاخ وقرينته، وعدم تكليف الغير بالتصرف في الحصص والأسهم بعد تسلم رئاسة الحكومة، والإثراء غير المشروع.
أما الملف الثاني فيتعلق بعشرة متهمين آخرين من بينهم الفخفاخ، من أجل استغلال موظف عمومي لصفته بهدف استخلاص فائدة لنفسه، أو لغيره والإضرار بالإدارة، في حين يتعلق الملف الثالث، بـ 13 متهما من بينهم الفخفاخ أيضا، من أجل نفس التهم المنصوص عليها بالملف الثاني.
وللتذكير، فان الهيئة التونسية لمكافحة الفساد، كانت قد أعلنت وجود شبهة تضارب مصالح في حق رئيس الحكومة السابق، وقالت إنه يمتلك أسهما في شركة تتعامل مع الدولة، وهو ما يمنعه الفصل 20 من القانون المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح، وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، وهو ما دفع بالفخفاخ إلى الإعلان عن تخليه طواعية عن مساهماته في الشركة، بعد اتهامه بتضارب المصالح، قبل أن يقدم استقالته لاحقا لرئيس الجمهورية في 15 جويلية الماضي، بعد ضغوطات سياسية حادة. وكانت إحدى الشركات التي يمتلك فيها الفخفاخ أسهما قد فازت بصفقة عمومية، أطلقتها الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، لاستغلال مصبات في عدة ولايات، وقدر حجم الصفقة بنحو 44 مليون دينار تونسي.
قمح فاسد وصفقة الكمامات لنائب في البرلمان
كما فتح القضاء أيضا ملف القمح الفاسد، المستورد من الخارج، وذلك بتوقيف موظفين اثنين تابعين لوزارة الصحة، بسبب عدم إجرائهما التحاليل الضرورية على شحنة القمح المستورد قبل نقلها خارج الميناء للاستهلاك، في انتظار الكشف عن أطراف أخرى على علاقة بالقمح الفاسد، ومن بينهم موردون خواص، وموظفون كبار في الدولة.
في السياق ذاته، قررت النيابة العمومية، فتح تحقيقات حول صفقة الكمامات الطبية، التي تورط فيها صالح بن يوسف وزير الصناعة في حكومة الفخفاخ، وجلال الزياتي النائب في البرلمان، حيث وجهت لهما تهم استغلال الوظيفة لاستخلاص فوائد مالية، والإضرار بالإدارة.
وتعود وقائع هذه القضية إلى شهر نيسان / أبريل الماضي، حينما تم الكشف عن عقد صفقة عمومية بين وزارة الصناعة والنائب البرلماني جلال الزياتي لشراء 30 مليون كمامة، دون احترام شرط المنافسة، وقبول العرض المالي الأقل، كما تنص على ذلك القوانين الحكومية، وهو ما خلف انتقادات حادة لوزير الصناعة والنائب البرلماني، نتيجة مخالفة تراتيب عقد الصفقات العمومية، ووجود شبهة تضارب مصالح.
على صعيد متصل، أكد بدر الدين القمودي، رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بالبرلمان، خبر أيقاف موظفين اثنين تابعين لوزارة الصحة في علاقة بالقمح المستورد، وبالرقابة الصحية على المواد الغذائية، مشيرا إلى أن الملف يتجاوز هؤلاء إلى أطراف أخرى تضم أفرادا وموظفين كبارا في الدولة. وقال القمودي إن جزءا من القمح كان فاسدا وغير صالح للاستهلاك.
وللتذكير فقد حلت عبر الميناء التجاري بسوسة في شهر آب / أغسطس 2019 باخرة تجارية، كان على متنها 250 طنا من القمح الأوكراني القادم من بلغاريا لفائدة شركة تونسية خاصة، مختصة في تحويل العجين، وقد رفضت موظفة تعمل في وزارة الصحة التأشير على تسلم شحنة القمح لأن لونه كان مائلا للسواد، على حد قولها.
وبفتح تحقيق في الموضوع، تم التأكد من أن الشحنة وصلت في حالة سليمة، غير أن نزول الأمطار قبل إفراغ الشحنة، جعل كمية نسبة الرطوبة فيها تزيد عن المعايير المعروفة، ولم يتم إتلافها كما تنص على ذلك القوانين.
73 وضعية تضارب مصالح
كل هذه القضايا أثيرت في الأيام القليلة الماضية من طرف القضاء، لكنها تبقى قطرة من فيض قضايا الفساد التي يتورط فيها مسؤولون نافذين في الدولة.
وقد أحالت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خلال النصف الأول من السنة الحالية، 73 وضعية تضارب مصالح تهم نواب ووزراء ورؤساء دواوين بالحكومة ورؤساء بلديات.
كما شرعت هيئة الدائرة الجنائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس، في النظر في قضيّة فساد مالي من الحجم الثقيل، تعلّقت بفساد وتجاوزات بالقطاع البنكي.
وشملت الأبحاث في القضية، 13 بنكا على رأسهم البنك المركزي التونسي والشركة التونسية للبنك، إلى جانب بنك الإسكان، بنك الجنوب سابقا (التجاري بنك حاليا)، والبنك الفرنسي التونسي، والاتحاد الدولي للبنوك.
يصنف الفساد في تونس على انه حاد جدا، بسبب استيلاء مجموعة فاسدة على أدوات عمل الحكومة الأساسية من أجل تطويع حقيقي لأجهزة الدولة لأغراض أخرى بما يعود بالمنفعة المادية على زمرة قليلة. ولعل السنوات العشرة التي تلت سقوط نظام بن علي لم تحمل التغيير الذي أراده التونسيون من خلال تضحياتهم في ثورة 14 جانفي، فلا حقق الاقتصاد نماءً ولا الأمن استقرارًا، بل انتقلت البلاد من نظام ديكتاتوري قائم على الاستبداد إلى آخر قوامه الفساد، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة إلى حد الآن معالجة آفة نخرت أجهزة الدولة ومؤسساتها الحيوية.
وقد ساهم الخلل الإداري في مؤسسات الدولة التونسية، في تأثير بعض الفئات الاجتماعية وذوي النفوذ والمال على بعض أجهزة الدولة وتوظيفها بطرق مختلفة لتحقيق مكاسب وثروات كبيرة.
وكان الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، قد أطلق صيحة فزع في وقت سابق، مؤكدا خلالها أن الفساد انتشر بشكل وبائي وان تونس قد تتحول إلى دولة مافيات، ما لم نفعل شيئًا لمكافحته، وشدد على أن بارونات الفساد اخترقوا وزارة الداخلية ووزارة المالية والديوانة والقضاء ووسائل الإعلام ومجلس النواب والأحزاب السياسية، مشيرًا إلى أن مليارات الدنانير تُستنزف من ميزانية الدولة نتيجة غياب الحوكمة والتصرف الرشيد في مؤسساتها.
وبحسب شوقي الطبيب فإن الشراءات والصفقات العامة أحد أكثر المجالات التي ينخرها الفساد في تونس وساهمت بشكل كبير في إهدار المال العام.
واقتصرت مكافحة الفساد في غالب الأحيان على الإيقافات الصورية بغرض التعمية وتسجيل نقاط على حساب الخصوم السياسيين، والحال أن معول الإصلاح كان أولى به أن يدك البنى التحتية للفساد وشبكة المشاركين والداعمين والمسهلين وعلى رأسهم المسؤولون الكبار والمشرعون.
وقد وصل الامر الى حد صعود المشتبه في تورطهم بقضايا فساد إلى السلطة، حتى ان العديد من الشخصيات التي ارتبط اسمها بالفساد نجدها في البرلمان وتشارك في تشكيل الحكومات كما نجدها في أحيان أخرى على راس السلطة.